رواية العمى للروائي البرتغالي جوزيه سارماغو في ذكرى رحيله
كتاب >>>> روايات ومقالات
"لا أعتقد أننا عمينا، بل أعتقد أننا عميان.. عميانٌ يرون، بشرٌ عميانٌ يستطيعون أن يروا.. لكنهم لا يرون". هذه الجملة تُقال على لسان إحدى شخصيات الرواية. لكن هل هي رواية؟! في الحقيقة، تحمل نهاية الرحلة التي تنطلق بها هذه الرواية من المعاني والرسائل المستخلصة ما قد تحصل عليه من مجلّدات فلسفية.
رحلة سحرية، إلى أعماق النفس البشرية، يتغلغل فيها الكاتب كما لم يفعل أحدٌمن قبل(في رواية). الأحداث التي تتوالى على مدار صفحات الكتاب، قادرة على أن تكبّلك بحبالٍ وهميةٍ تبقيك مشدوداً إلى الرواية لحين إنهائها. في الرحلة الممتعة مع شخوص الرواية، والتي لا تحمل أسماءً بالمناسبة، بل مجرد شخصياتٍ عَمِد الكاتب أن يعرّف عنها بالإشارة إليها بعيداً عن الأسماء، ويجعل تلك الشخصيات المصابة بانعدام القدرة على الرؤية، والغارقة في "بحر حليبي أبيض" حسب تعبيره، موجودٌ في مكانٍ ما من العالم غير معرّف، كذلك الزمان. كل هذه العوامل الأساسية في بناء أي رواية، يهمّشها جوزيه سارماغو في محاولةٍ لتجريدها من حالة مرتهنة وإطلاقها لتنطبق على كلّ زمانٍ ومكان، وعلى أيّ شخصية. قدتكون أنا أو أنت، هو أو هي.
قدرة الكاتب تتجلّى في قدرته على التنبّؤ بتصرفات مجتمعٍ أخضعه لحالةٍ افتراضيةٍ خياليةٍ شبه مستحيلة. في هذا الجو الافتراضي، أزالَ كلّ ما يغلّف النفس البشرية من لُبوس الحضارة، كلّ ما يهذّب النفس ويشذّبها، مثل السلوكيات، والقوانين الفردية والمجتمعية التي ترتقي بالفرد وغيرها.
تخيلوا معنا النفس البشرية مجرّدة من كل قانون، من كل سلطة عليا نابعة من الداخل أو من المجتمع، النفس بفطرتها الغرائزية التي تقودها الحاجات البشرية الأساسية. النفس البشرية بمفهومها العاري، حيث لا يغلّفها حِجابٌ ولا يخفي قباحتَها أو حتى جمالَها شيء.
في رحلتك مع أحداث روايةٍ اسمها "العمى"، تزداد بصيرتك قوّة، لترى ما بداخل النفس، عبر تجربة فقدان البصر الافتراضية، تنظر على صعيد الفرد والمجتمع، لتصل إلى عملية إسقاطٍ على ما يجري حولك.. أنحن مصابون بالعمى؟! هل العمى هو فقدان حاسة البصر؟! إن كان ذلك حقاً، فإنّ ما قامت به شخوص الرواية حين ألمّ بها هذا الداء الذي أدّى بها إلى فقدان الحكم السليم والمنطق السليم، نقوم به في عدّة بقعٍ من العالم رغم امتلاكنا لحواسنا كافةً، بل قد نقوم به بشكل يوميّ بأنفسنا. من هنا نجد أن أجمل ما تحقّقه رواية "العمى" هو فتح بوابات الخيال على مصراعيها لتخضعنا لتجربة مريرة دون أن نعيشها فعلياً، ويمكن لأي إنسان مرّ بتجربةٍ مريرةٍ أن يستطيع تبيّن صدقِ ودقّةِ الرواية في توصيف الحالة، أيضاً جوهر البشر في مختلف أمزجتهم وحالاتهم.
ستقرأ العمى، وسيلحّ السؤال عليك: ما الذي سأفعله لو حدث معي ما حصل مع أبطال الرواية؟ إن استيقظتُ يوماً وقد فقدتُ بصري، و أُدخلت إلى حجرٍ صحيٍّ مع أناسٍ عميانٍ مثلي تماماً، من كنت لأكون؟ القويّ المتجبّر؟ صاحب الفطرة السليمة مهما ألمّ به؟ المستغلّ لضعف الآخرين؟ أو الضعيف الذي لا حول له ولا قوة؟ سؤال آخر يلحّ عليك: لماذا العمى الأبيض! ما الهدف من هذا أن يبصر العميان بدل السواد المظلم، البياض الحليبي!
في توصيف شخوص المجتمع المصغّر الذي خلقه جوزيه سارماغو، قد لا تبدو الكلمة بمعناها الطبيعي ( الضعف، القوّة، الشرّ، الخير..) تختلف المعاني والإشارات وفقاً للحالة، كذلك تختلف المبادئ والقيم والقوانين التي تبدو شرعيةً ، و تصبح بقيمة مختلفة في مجتمع جوزيه سارماغو .
الرّواية بتصنيفها الأدبي تندرج تحت المزج بين الفنتازية والواقعية، والتعبير عنهما في خليط سحري يتكلّم عن مجموعة العميان التي جمعها الحجر الصحي. اللغة التي استعملها جوزيه سلسة للغاية، عباراتٌ مقتضبةٌ معبّرة تكاد لا تشعر أنّها جملٌ مكتوبة، بل تغدو كلماتٍ مُعاشة. باستطاعتنا تقسيم الرواية إلى طورين: مرحلة ما قبل الحجر الصحي، وهو القسم الذي يبدأ فيه المرض بالظهور بين أفراد مجتمع ما بشكل عشوائي، أو هكذا يبدو لنا على الأقل، حيث يأخذنا جوزيه سارماغو إلى كل شخصيةٍ من الشخصيات ليصوّر لنا كيف أُصيبت بالعمى المفاجئ. لاحقاً في مرحلة ما بعد الحجر الصحي، تصبح الشخصية الوحيدة المبصرة في الرواية هي وسيلتنا لرؤية ما يجري، وتصبح هي القاصّة والموثّقة لما يجري أمامها وهي أعيننا -نحنالقرّاء-تمسك بيد كل قارئٍ على حدة لترويَ له ما يحصلُ في مجتمعٍ فقد القدرة على الرؤية، ليس فقط حاسة البصر، بل الرؤية كـ استبصارٍ ومحاكمةٍ عقليةٍ سليمة، ومقدرةٌ على كبح الرغبات وتهذيبها وتشذيبها، وتلبية متطلبات فطرية بطريقة إنسانية سليمة لا حيوانية متوحّشة.
الشخصية الوحيدة المبصرة هي صوت جوزيه سارماغو، ونحنُ القرّاء نرى بعينيه ما يريد أن يرينا إيّاه، وهو المجتمع حين يدبّ فيه ما يبعث على الفرقة و الاقتتال –أيّاً كان المُسبّب- و كيف يصبح مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة) قانون مُتّبع وشرعي ومطلوب للبقاء على قيد الحياة في هذا المجتمع المُصغّر(بناء الحجر الصّحي)، والذي أصبح شيئاً فشيئاً أقرب إلى غابة من الوحوش.
ستتخيل ، أنك أعمى، وستحاول أن تتصدّى لتخبّط العميان حولك،و كيف سوف تتضخّم "الأنا" لتصبح هي ما يهم، وتضمحلّ "القيم والمبادئ" و كل ما يخص "الجماعة والمجتمع". ما يهم كيفية المحافظة على الحياة، لتتّضح في التفاصيل كم هي هشّة وسهلة الانهيار و ثمينة في آنٍ معاً هذه الـ"حياة". الرواية هذه ليست كغيرها من الروايات، هي رواية عمياء أيضاً من ناحية عدم الإشارة إلى أي شيء يربطها بعالمنا الحقيقي، لا مكان، لا تواريخ، لا أسماء، لكنّها غاية في الواقعية.
من هو جوزيه سارماغو كاتب هذهِ التحفة؟
José Saramago هو برتغالي من عائلة مزارعين بسيطة، بدأ حياته كـصانع أقفال! ليدخل مضمار الصحافة لاحقاً، ويتفرغ بعد ذلك للكتابة والأدب. كتب ما يقارب العشرين كتاباً، بأسلوب تهكميّ متميّز، أرّخ فيه أيضاً لحقب مهمة من تاريخ بلاده "البرتغال". حصل على عدة جوائز عالمية منها: جائزة كامويس البرتغالية، جائزة نادي القلم الدولي، وأخيراً توّج انتصاراته الأدبية بنيله لجائزة نوبل للآداب عام 1998. كان عضواً فعالاً في محاربة العولمة، كما من المهم الإشارة إلى أنه كان من الكتّاب والمفكرين العالميين الذين شكّكوا بالرواية الرسمية لأحداث (11سبتمبر). توفي الكاتب المولود عام 1922 في حزيران 2010. من أهم رواياته: الإنجيل يرويه المسيح، كلّ الأسماء، سنة موت ريكاردو ريوس. أما جوهر مقالنا وهو روايته الأشهر" العمى"، فصدرت للمرّة الأولى في عام 1995، ولقراءتها بنسختها العربية، عليكم بالطبعة الأوفى في ترجمتها للغة الأم وهي تلك المُترجمة من دار المدى.
صعبةٌ هي المحاولة التي يقوم بها أحدهم في التكلّم عن رواية أو كتاب ما، دون أن يقوم بـ "حَرقه" كما يقال، كنايةً عن قتل أحداث الكتاب بروايته لأولئك الذين لم يقرؤوه بعد. حرصنا على أن لا نفعل ذلك، فالأحداث أكثر تشويقاً من أن تُروى في مقال.
أيها المبصرون ... بانتظار أن تخبرونا عن تجربة "العمى" لجوزيه سارماغو.