هل دون وجود إله سيكون هناك أخلاق؟! (الإلحاد والأخلاق)
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> علم الأخلاق وعلم الجمال
فكلمة الإلحاد (atheism) ( جاءت من اليونانية 'a' أي 'لا'، و'theo' أي 'الإله') وهي رؤيةٌ تنكر وجود أي آلهة (1)، وفي الإنكليزية فإن A تعني لا أو غياب و Theism هي الإيمان بإله أو عدة آلهة وكونه أو كونهم تحديدًا هو أو هم مَن خلق العالم، ومن ثمَّ عُرِّف الإلحاد Atheism بوصفه نفي الإيمان بالإله أو آلهة أو تناقضه Theism نتيجة اتساع هيمنة المؤمنين (2)، وبذلك يختلف الإلحاد مع اللاأدرية Agnosticism أيضًا في أن الثانية -بحسب توماس هكسلي- تشير إلى الموقف الذي يقول بأن الأفكار الميتافيزيقية لا يمكن إثباتها ولا نفيها (1).
وسابقًا اتُّهم سقراط بالإلحاد لعدم إيمانه بآلهة أثينا الرسمية، لكن حاليًّا يشير المعنى الدقيق للإلحاد إلى الاعتقاد في عدم وجود إله، وقد أصبح هذا الاستخدام هو الاستخدام القياسي (1)، ويُميَّز بين الإلحاد السلبي (Negative Atheism) والإلحاد الإيجابي (Positive Atheism) في أن الأول هو أي شخص ليس لديه اعتقاد -حتى اللحظة- بوجود إله أو آلهة وعلى نقيضه الملحد الإيجابي الذي يؤكد على عدم وجود إله أو آلهة مع وجود اعتقادات محددة لديه على عدم وجودهم، وبالتأكيد مع تباين درجة اليقين والاهتمام بالموضوع (3)، ويعتقد كثيرٌ من الناس أن الإلحاد يعني إنكار وجود إله ومن ثم لا وجود للأخلاق، أو إنكار وجوده ومن ثم لا وجود لمعنى من الحياة، أو إنكار وجود إله ومن ثم عدم وجود خيرية لدى البشر (2)، وبذلك يرى عديد من الباحثين أن الإلحاد لا ينطوي على معنى واحد يشمل مَن يتبنون هذا الموقف جميعهم، بل هو أشبه بما يكون بمظلة تشمل عديدًا من الفلسفات مثل الوجودية الإلحادية والماركسية وغيرهما (3).
ولعل السبب الذي يجعل كثير من الناس يعتقدون أن وجود الإله هو شرط ضروري للأخلاق هو اعتبار أن وجود قانون أخلاقي عام يعني وجود مشرِّع سنّ هذا القانون، لكن مشكلة هذا الاستدلال هي الخلط بين مفهومي القانون والأخلاق؛ إذ يتطلب القانون وجود مشرّعٍ وقاضٍ، لكن وجودهما لا يضمن أن تكون القوانين عادلة وخيّرة؛ فلِكي تكون القوانين خيرة وصالحة لا بد أن يكون أساسها أخلاقي (2).
وكان الرد على هذا الاعتراض هو القول أن هذا الطرح ركيك ومصاغ على نحو سيئ؛ لأن الإله هو الخير فإذا كان الإله والخير هما الشيء ذاته فلا يمكننا السؤال عن اختيار الإله للخير؛ لأن الإله هو الخير (2).
ولكن هذا الرد يُبقي الإشكالية قائمة؛ إذ يمكننا دائمًا أن نسأل هل الإله خيّر؛ لأن ماهية الألوهية تتضمن أن يكون الإله خيّرًا، أم أن الإله خيّر لأنه امتلك خصائص الخير ومكوناتها جميعًا؟ (2).
تُعرَف هذه المعضلة باسم معضلة يُثيفرو (Euthyphro)، وقد أثيرت في إحدى محاورات أفلاطون، وتطرح السؤال الآتي: هل يأمر الإله بالأفعال الأخلاقية أو الصائبة لأنها أفعال أخلاقية صائبة، أو أن هذه الأفعال صائبة أخلاقيًا لأن الإله أمر بها؟ (2).
وردُّ أنصار نظرية الأمر الإلهي هو القول أن الأفعال الصائبة أخلاقيًا هي أفعال صائبة؛ لأن الإله أمر بها، والأفعال الخاطئة تكون خاطئة؛ لأن الإله أمرنا باجتنابها، لكن هذا الرأي يؤدي إلى إشكاليات وعواقب هي:
1- اعتباطية الأخلاق: فإذا كانت المكونات والخصاص الأخلاقية تعتمد على إرادة الإله فقط، بذلك تكون أوامر الإله سابقة منطقيًّا على الخصائص الأخلاقية، وهكذا فلن تكون للإله أي أسباب لأوامره هذه، فتصبح الأخلاق اعتباطية، بمعنى أنْ ليس هناك أي أسباب تبين سبب كون فعل ما صائبًا أو خاطئًا أو محايدًا أخلاقيًا.
2- عرضية الأخلاق: أي أن تكون الأخلاق عارضة؛ لأن باستطاعة الإله أن يصدر أي أوامر أخلاقية مهما كانت.
3- الخوف من العقاب: بأن الشخص الذي يتصرف أخلاقيًا فحسب لكونه يخاف من العقاب أو يرغب بمكافأة لا يجعل من تصرفه تصرفًا أخلاقيًّا، مثل أن كل ما يمنع الشخص من السرقة هو خوفه من أن يكتشف أمره فهذا ليس تصرف أخلاقي، بل التصرف الأخلاقي يكون عندما تتاح للشخص الفرصة للسرقة دون أن يعاقب لكنه لا يفعل ذلك (2,4).
وهذه الاعتراضات أدت إلى استنتاج يفيد أن وجود الإله ليس ذي علاقة بوجود الحقائق الأخلاقية؛ لأنه مهما كانت الأسباب التي تؤسس لأحكام الإله الأخلاقية فإن هذه الأسباب ستكون موجودة حتى في حال عدم وجوده. ومثال ذلك:
"تخيل لو حدث أن عُذّب طفل صغير، فإن هذا الطفل وأقاربه ومحبيه سيتعرضون لآلام جسدية ونفسية، وهكذا سيرى الملحد أن هذه الوقائع عبارة عن أسباب كافية لمنعنا من القيام بأفعال التعذيب، وإذا كان الإله موجودًا؛ فإنه سيأمرنا بعدم تعذيب الأطفال نظرًا للوقائع سالفة الذكر، لكن حتى لو لم يكن الإله موجودًا فإن هذه الوقائع أو المعطيات ستكون موجودة وستكون أساس السلوك الأخلاقي؛ أي إنها توجد على نحو مستقل عن وجود أي كائن (4).
ولحل المعضلة السابقة، يقدم دعاة التفكير الأخلاقي الإنساني رأيًا يرى بإمكان رد الأخلاق إلى البيولوجيا التطورية، أي محاولة رد الأخلاق إلى عملية التطور.
ولم يحظَ هذا التصور بقبول المتدينين؛ لأنهم يعدون رد الأخلاق إلى التطور سيجعل من البشر مجرد آلات تطورت من خلال الصراع من أجل البقاء، ومن ثَمَّ لا يمكن توظيف هذا التصور في تفسير الإلزام الأخلاقي؛ وسنجد أننا أمام بديلين: الأول أن نعتبر الأخلاق مجرد وهم، والثاني أن نقر أن إدراكنا الأخلاقي مصدره كائن أسمى خلقنا على صورته.
لكن الرد على المتدينين هو أن قدرتنا على التعاطف مع الآخرين والإحساس بهم هو مكون عميق من مكونات طبيعتنا البشرية، وهي الأساس الذي يقوم عليه وعينا الأخلاقي، إضافة إلى توظيفنا اللغة لغرض تنظيم التعاون واستباق عواقب أفعالنا لتقييم ما حصل وما يجب أن يحصل، وعندما تتمظهر هذه القدرات على شكل قدرتنا على التعاطف فإنها توسع اهتمامنا الإنساني بالآخر على نحوٍ يتجاوز مجموعتنا البيولوجية فحسب، فتمكننا من التفكير بعقلانية في تأثير أفعالنا في أشخاص مختلفين وتثير أسئلة حول التوافق والعدل.
وهكذا تبيِّن لنا البيولوجيا التطورية أن الأخلاق ممكنة وأنها ليست وهمًا (5).
لكننا في المقابل، يجب أن نكون حذرين عند حديثنا عن الغايات البيولوجية؛ لأنها لن تقودنا إلى إجابات عن الأسئلة الأخلاقية، فلا يمكنها تقديم تصور عن الكيفية التي نحل بها النزاعات أو كيفية مقاومة الرغبات التي تثيرها مشاعر مختلفة، بل نجدها تقتصر على تفسير سبب ظهور الأخلاق، وتترك باقي الأسئلة الأخلاقية دون إجابة (5).
ولعل أبرز التحديات الأخلاقية التي يوّجهها الملحدون إلى المؤمنين هي اعتبار أن أخلاق المؤمنين تهدف إلى الحصول على مكافأة أو تجنب العقاب، فالاعتقاد أن الإله يراقب دائمًا ومستعد للمجازة على الأخطاء هي طريقة فعالة لتجنب ما يخالف التعاليم الدينية، وهكذا يتحدى الملحدُ المؤمنَ قائلًا: "لنضع تعاليم الدين جانبًا ولنرَ ما الذي سيمنعك من القيام بأفعال خاطئة أو غير أخلاقية؟ (2).
المصادر: