جاك دريدا ولا شيء خارج النص
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> الفلسفة
يقول دريدا، عندما نختار كتابًا ما لمطالعته، كتاب فلسفة أو رواية مثلاً، فإننا نتخيل أن ما بين أيدينا موضوع يمكن أن نفهمه أو نفسره نسبيًا، كعمل متكامل قائم بحد ذاته. وعندما يتعلق الأمر بالنصوص الفلسفية، فإننا نتصور بأن هذه النصوص بشكل خاص تعتمد المنهجية والمنطقية في تحليلها. فعلى سبيل المثال: تخيل أنك ذاهب للمكتبة وحصلت على كتاب دريدا في علم الكتابة، فإنك تتوقع بأنك عندما تنتهي من قراءة هذا الكتاب سيكون لديك فكرة عامة وشاملة عن علم الكتابة وأفكار واعتقادات دريدا في ما يخص هذا الموضوع. في الواقع- وبرأي دريدا- فإن النصوص لا تعمل بهذا الشكل.
حتى أبسط النصوص وأكثرها بداهة تتضمن ما يسميه دريدا "بالمعضلة aporia"، وتأتي هذه الكلمة من اليونانية القديمة وتعني "تناقض"، "لغز"، أو "طريق مسدود". ويعتقد دريدا بأن كل النصوص تحتوي على ثغرات وتناقضات، لذلك فإن طريقته التفكيكية هي إحدى طرق قراءة النصوص والتي يتم فيها البحث عن هذه الثغرات والألغاز. يهدف دريدا إلى توسيع فهمنا لهذه النصوص، وماذا تفعل عن طريق استكشاف هذه التناقضات، وبذلك يمكن إظهار التعقيد الذي يكمن وراء النصوص حتى أبسطها.
النظرية التفكيكية: هي نظرية لقراءة النصوص ولتقديم المفارقات والتناقضات الخفية إلى العلن أو مايسمى بالمصطلح الدّارج (قراءة مابين السطور). ويجب الأخذ في الاعتبار بأنها ليست مجرد طريقة لقراءة الفلسفة أو الأدب، فنظرية دريدا تثير التساؤل حول العلاقة بين اللغة والفكر والأخلاق.
ومن المصطلحات التقنية المهمة التي قدمها دريدا هو مصطلح "الاختلاف difference "، وعندما دخل هذا المصطلح لأول مرة في قاموس اللغة الفرنسية قالت والدة دريدا "ولكن يا جاك لا نكتب الكلمة هكذا ". في الواقع صاغ دريدا هذا المصطلح للإشارة إلى جانب غريب في اللغة. “Différance” بحرف a لعب على كلمتين فرنسيتين وهما “différence” بحرف e وتعني اختلاف، و“deférrer” وتعني تأجيل، ومن خلال دمجهما يصبح لدينا كلمة “Différance”، وعند تغير حرف a إلى e فإن اللفظ يبقى كما هو ولكن المعنى يتحول من الاختلاف والتغاير إلى الإرجاء والتأجيل. لفهم كيفية عمل هذا المصطلح فإنه من المهم النظر إلى كيفية حصول الاختلاف والتأجيل عمليًا.
دعونا نبدأ بفكرة التأجيل: أقول مثلاً... رأى صديقي... /وأضيف/... قطًا أبيضًا /ثم أكمل/ في الحديقة... /وأتابع الحديث/. فعند كل كلمة أُضيفها يتغير معنى العبارة ويتغير معنى كلمة "قط"، فبالتالي إنّ كل معلومة تُضاف تؤدي إلى تأجيل المعنى الكامل للعبارة. وهناك أمرٌ آخر يجب أخذه في الاعتبار، حيث أنّ كلمة "قط" لا يرتكز معناها على علاقتها بالقط الحقيقي الموجود في العالم الخارجي، لأنّ الكلمة تأخذ معناها من موقعها ضمن نسق اللغة ونظامها. ولذلك كلمة قط لا تكتسب معناها بسبب الرابط الخفي بينها وبين القط الحقيقي، بل تكتسب معناها باختلافها عن كلمة عصفور أو فأر، وهذا هو مصطلح الاختلاف. وبالتالي فإن جمع هذين المصطلحين الاختلاف/التأجيل يكشف أمراً جديداً في اللغة. فمن ناحية أولى، إنّ معنى أي شيء نقوله دائمًا مؤجل لأنه يعتمد على ما سنضيف، والأمر الذي سنضيفه يعتمد معناه على ما سنضيفه لاحقا وهلم جراً. ومن ناحية أخرى، فإن أي كلمة نقولها يعتمد معناها على الأمور الأخرى التي لا تعنيها أيضاً.
بالنسبة لدريدا فإن الاختلاف/التأجيل جانب من جوانب اللغة أدركناه بفضل الكتابة. فمنذ العصور القديمة ارتاب الفلاسفة في الكتابة، فيعتبر سُقراط بأن الكتابة تعطي هيئة الحكمة وليس جوهرها. فالكتابة، كما اعتقد العديد من الفلاسفة، تبدو كانعكاس شاحب للكلمة المنطوقة والتي كانت تُعد الوسيلة الأساسية للتواصل. أراد دريدا عكس هذه الفكرة فوفقاً له تُظهِرُ الكلمة المكتوبة أمورًا عن اللغة لا تستطيع كشفها الكلمة المنطوقة.
ويعتقد دريدا أيضاً بأن الفكرة التقليدية حول كون الكلام الوسيلة الأفضل لنقل الفكرة الفلسفية يخدع الجميع للتفكير بأن لدينا إمكانية للوصول إلى المعنى بشكل مباشر. فنحن نعتقد بأن المعنى يأتي من "الحضور presence"، أي عندما نتكلم مع شخص فإننا نتصور بأن أفكارهم حاضرة لنا فإذا كان هناك أي التباس فيمكن أن نطلب من الشخص التوضيح وهذا يؤدي إلى الاعتقاد بأن المعنى يكون بشكل عام حول الحضور، أي أن المعنى الحقيقي لكلمة قط نجده في القط الموجود أمامنا. لكن عندما نتعامل مع النص المكتوب نتحرر من هذا "الحضور"، فعندما نقرأ نص لا يكون مؤلفه حاضرَا نتخلص من تفسيره وأعذاره ونبدأ بملاحظة التعقيدات والألغاز والطرق المسدودة فتبدو اللغة لنا معقدة.
فعندما يقول دريدا "لا شيء خارج النص" فهو لا يعني بأن كل ما يهم هو عالم الكتب، وأن العالم الحقيقي ليس مهماً. وهو لا يحاول أيضًا التقليل من أهمية القضايا الاجتماعية التي تكمن وراء النص، فما الذي يقصده دريدا بالضبط؟
اقترح دريدا لو أخذنا مسألة الاختلاف/التأجيل في الحسبان وتعاملنا مع مسألة كيفية التفكير في العالم فإنه يجب أن ندرك بأن المعنى لا يكون مباشراً أبداً، وبأن هذا المعنى دائما متاح للفحص والتفكيك. وبذلك يرفض دريدا القراءة التقليدية والتاريخية وتقسيم العصور لأنها تبحث في مؤثرات غير لغوية وتبعد الباحث عن الاختلافات اللغوية في النصوص لأن كل شيء يوجد في المغايرة والتأجيل وسلسلة الاختلافات، أي أن النص يخلق واقعه ويفرض نفسه ويشكل مجاله.
المراجع:
Will Buckingham. The Philosophy Book. DK: London. 2011
Sean Gaston، Ian Maclachlan. Reading Derrida's Of Grammatology. 2011