تطور المجتمع المدني - الجزء الأول
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> الفلسفة السياسية
خضع تعريف المجتمع المدنيّ منذ ظهوره إلى الحدود التاريخية لوعي المفكرين وإلى الشكل الذي نظروا من خلاله إلى علاقة السلطة السياسيّة بالأفراد. فقد مرَّ هذا المفهوم بعدّة مراحل من أجل بلورته وصياغته بشكل أدقّ وأكثر وضوحاً. ويمكن تعقب تطور هذا المفهوم عبر المراحل التالية:
المرحلة الأولى (القرنين السابع عشر والثامن عشر):
وفيها يظهر مفهوم المجتمع المدني كنقيضٍ لمفهوم الطبيعة والمجتمع الطبيعي، الذي هو بالنسبة للبعض المجتمع الحيواني أو المجتمع الأبوي أيّ مجتمع الحرية الأولى.
لقد تم إرساء الأسس والمكونات المعرفيّة والنظريّة للمجتمع المدني في عصر النهضة الأوروبيّة وفلسفة الأنوار. ذلك أنَّ تاريخ مفهوم المجتمع المدني يعود إلى تطور الفكر السياسي الليبرالي على مدى القرنين السابع عشر والثامن عشر، المرتبط بالمذاهب الاجتماعية والاقتصادية، والذي بلور النظريّة السياسيّة الليبرالية الكلاسيكية الغربية منذ بداية انهيار نظام الحكم المطلق وسلطان البابا الديني والدنيوي المتحكم في ملوك أوروبا باسم سلطة الكنيسة المسيحية وبداية الهجوم الكاسح عبر الثورات على حكم الملوك.
وقد نشأ استخدام هذا المفهوم في هذه المرحلة ضمن سياق تحلل النمط التقليدي للمجتمع الإقطاعي أو الدولة ما بعد الإقطاعية القائمة على البديهة الدينية أو العرفية، ونمو الشعور بأنَّ السياسة هي صناعة أي نشاط عقليّ وتابع لعمل الإنسان والمجتمع، ومن خلف ذلك ظهور النظرية السياسية الحديثة. وكانت الحاجة ضروريّة لمفهومٍ جديد يعكس النزوع المتزايد لاكتشاف ما سوف يسمى بالسياسة المدنيّة، أي السياسة التي تعبر عن حقيقة الإنسان وخصوصيته مقابل ما كان سائداً في الحقبة الوسيطة من انعدام السياسة كمجالٍ عامّ ومشترك ومن ارتباط السياسة بالدين أو بالإرث الأرستقراطي أو بالاثنين معاً. فبنية المجتمعات ما قبل الحديثة كانت تقتصر على ثلاث مراتب أساسيّة من الوجهة السياسية، رجال الدين والكنيسة، طبقة النبلاء أو ملاكين الأرض والإقطاعيين، ثم عامّة الشعب. ولم يكن لعامة الشعب أي اعتبار في أي موضوع يخص ما نسميه اليوم موضوعات سياسية.
المرحلة الثانية (القرن التاسع عشر):
حققت البرجوازية ثورتها ونقلت السياسة فعلاً من الميدان الدينيّ والعرفي إلى الميدان الاجتماعي، أي جعلتها حقيقية إنسانية تعاقدية. ولم تعد المشكلة المطروحة هي تحرير السياسة من الدين والعرف الأرستقراطي، ولكن إعادة بناء مفهوم السياسة الحديثة ذاته والتمييز فيه بين مستوياته المختلفة. فالسياسة الحديثة التي ألغت المراتب الطبقية التقليدية، والثورة الصناعيّة التي نقلت المجتمع من نمط العلاقات الحرفيّة والإقطاعية، طرحت أيضاً مسائل جديدة على المجتمع من حيث هو عدد كبير من الأفراد يتعاملون مع بعضهم البعض ويعتمدون بعضهم على بعض، وهو معنى المجتمع المدني بالضبط. طرحت هذه التحولات إعادة بناء المجتمع المدني وفهم حقيقته الجديدة.
تقتضي فعالية الممارسة الليبراليّة بالدرجة الأولى، ألا تكون جميع السلطات متركزة في الدولة. بمعنى آخر لابد أن يتواجد بجانب السلطة العامّة للدولة دوائر من العمل مستقلة استقلالاً ذاتياً ولا تخضع قواعد سلوكها للسلطة السياسية. إن هذه الاستقلالية النسبيّة هي التي تعطي المجتمع الليبرالي ميزته وهي ثنائية: المجتمع والدولة. في حين ينحلُّ المجتمع بالكامل - في النظم الاستبدادية - داخل كيان الدولة. أيّ أن الصيغة الليبرالية تقبل بوجود مجتمع مدني متعدد الأشكال وتجزيء السلطة داخل أي قطاع من القطاعات. ولا يتحقق هذا المشروع إلا من خلال البدء برأس الهرم الاجتماعي عبر فصل السلطات الثلاث والذي بدأه (لوك) وأكمله (مونتسكيو). وهذا ما ينتج عن إمكانية استقلال المجتمع المدنيّ مما يتيح لعدد كبير من الفاعلين الاجتماعيين تولي جزءٍ من السلطة من جهة، ويمنع أولئك الذين يتولون مسؤوليات في دائرة من الدوائر أن يكونوا ذوي نفوذ في دوائر أخرى من جهة ثانية.
في المقالة القادمة نحدثكم، أعزاءنا المتابعين، عن مفهوم المجتمع المدني عند بعض الفلاسفة.
المصادر:
1- المجتمع المدني والديمقراطية ياسر صالح، رسالة ماجستير.
2- تتطور مفهوم المجتمع المدني حسب وجهة نظر ( توماس هوبز – جان لوك – أدم سميث)، 2014، منظمة بدر المكتب السياسي.
3- كريم أبو حلاوة ،إشكالية مفهوم المجتمع المدني (النشأة – التطور – التجليات)،( دمشق: دار الأهالي للتوزيع، الطبعة الأولى ،1998)
مصدر الصورة:
هنا