مراجعة كتاب عبادة المشاعر
كتاب >>>> روايات ومقالات
تلك هي الأشياءُ التي تُهيِّجُ حياتنا العاطفيَّةَ ثم تفسدُها، التي نجدُها أيضًا في الوسائلِ المرئيةِ لترويجِ الأفلامِ التي تحفزُ الشعورَ كمشاهدِ الموتِ الحزينةِ، حتى إن النشراتُ الإخباريةُ مليئةٌ بما يتلاعبُ بمشاعرِنا؛ كالأخبارِ التي تدعو إلى التعاطفِ مع ضحايا الفيضاناتِ وغيرِها، إضافةً إلى ذلكَ الرياضاتُ الفرديةُ كرياضاتِ القفزِ بالحبل التي نسعدُ بتهورِنا فيها على الرغم من مخاطرِها.
لن نختلفَ على عودةِ المشاعرِ بقوةٍ في عصرِنا الحاليِّ كما كانتْ سائدةً في العصرِ الرومانسيِّ في النصفِ الثاني من القرنِ الثامنَ عشرَ، لكن لماذا عادتْ؟
يطرح لكروا السببَ الأولِ بكونه تعويضًا عن غيابِ مشاريعَ كبيرةٍ ينخرطُ فيها الناسُ، لذا تبقى طاقاتُهم مكبوتةً، فتَتخمَّرُ وتُنْتِجُ مشاعرَ، لذلكَ نجدُ أن نشاطاتِ الشعوبِ الاجتماعيةَ تنحصرُ في الممارساتِ العاطفيةِ، ويتضحُ الأمرُ عندما لا تجدُ أمرًا عظيمًا تندمجُ فيه كنضالٍ سياسيٍّ أو حربٍ، وكأنَّ المشاعرَ وسيلةُ نضالٍ يجبُ أن يحدثَ.
سببٌ آخرُ يجعلُنا نعودُ إلى المشاعرِ، وهو أننا نعدّها "مخدرًا للذاتِ"، فالإنسانُ المعاصرُ يعلمُ أنه غيرُ مؤثرٍ أو فاعلٍ في الأحداثِ الكُبرى، لكنه ينفعلُ مع أيِّ شيءٍ ليعبرَ عن مشاركتِه، فيتخذها وسيلةً يحققُ ذاتَه عن طريقها، فكيفَ يمكنُنا أن نتحكمَ بمشاعرِنا؟
يقول لكروا إنّ الإنسانَ الحسَّاسَ هو النوعُ المثاليُّ لعصرِنا، فهو يُديرُ مشاعرَه ويستثمرُها عوضًا عن كبتِها، فتُمكنُّه من معرفةِ العالمِ عن طريقِ الإحساسِ لا عن طريقِ الإدراكِ المجردِ، ونجدُ أن التجردَ من المشاعرِ في عصرِنا الحالي يعني " اللاإنسانيةَ" المتمثلةَ عادةً في صورةِ الحكيمِ الرواقيِّ في عدمِ التأثرِ والانفعالِ، والحفاظِ على السكينةِ الدائمةِ والتَّمسُّكِ بالعقلِ فقطْ.
لذا؛ يجب على الإنسان العودةُ إلى حالةِ الطفلِ الحرِّ في التعبيرِ عن مشاعرِه، وهذا ما يسمَّى "التحريرِ الشعوريِّ" أو "التطهيرِ" الذي يعطي الراحةَ بعد توترٍ حادٍّ. باختصار؛ إِننا نحتاجُ لتحريرِ المشاعرِ لا التحررِ منها.
لا تقتصرُ أهميةُ المشاعرِ على الاهتمامِ بذاتِ الفردِ ونفسِه فقط، بل تفتحُ أُفقًا للعلاقاتِ مع الآخرينَ والتشاركِ معهم، بهدف تعزيز الروابط الاجتماعيةَ التي تلاشتْ بسببِ استغناءِ الأفرادِ عن الفعالياتِ الاجتماعيةِ القديمة مدفوعون "بالحاجةُ الجماعيةُ" إلى الإحساسِ بالانتماءِ الشعوريِّ، الذي يعطينا فرصةً لنشاركَ الآخرينَ بحريةٍ دونَ قيودٍ أو شروطٍ، ويحافظ على خصوصيتِنا الفرديةِ. الآن؛ ألم تتساءل ماذا سيحصلُ لو بالغْنا بالمشاعرِ، ووصلنا إلى حالةِ تهيجٍ عاطفيٍّ؟
تنقسمُ الحياةُ الشعوريةُ إلى نوعينِ أساسيينِ من المشاعرِ: النوعِ الأولِ: "مشاعرِ الصدمةِ" التي تُعبِّرُ عنها الصرخةُ، وتمتازُ بلحظيتِها واستهلاكِها الشعورَ قبلَ أن ينضجَ ويتحولَ إلى إحساسٍ. النوعِ الثاني: "مشاعرِ التأملِ" التي تُعبِّرُ عنها التنهيدةُ، وتأخذُ منحًى تراكميًّا يتدفقُ بهدوءٍ إلى أن ينضجَ ويُشكِّلَ إحساسًا يدومُ، وهي التي تمكنُنا من الاستمتاعِ بالعالمِ عندَ تأملِه.
إن مشاعرَ الصدمةِ تقودُ إلى حالةِ التهيجِ العاطفيِّ أوالمبالغةِ بالمشاعر، التي لا تخرجُنا من عزلتِنا كما نعتقدُ، وإنما تشغلُنا عنها مدةً قصيرةً، والسبب هو أننا قد أهملْنا الهدوءَ ومشاعرَ التأملِ وأصبحْنا مُهَيِّجين حسيًّا وسمعيًّا وبصريًّا، فأصبحتْ حياتُنا العاطفيةُ المعاصرةُ غيرَ مستقرةٍ نتيجةَ فقرِها لمشاعرِ التأملِ، وغناها بمشاعرِ الصدمةِ. باختصار؛ يجبُ أن ننقذَ أنفسَنا من الأدرينالين ومن الهيجانِ الذي نظنُّه إحساسًا.
فالإنسانُ أصبح كثيرَ التأثرِ، لكنه فقد قدرتَه على الإحساسِ وانتقل إلى مرحلةِ الإنسانِ الاصطناعيِّ، لأنَّ حياتَه العاطفيةَ أصبحتْ رهينةَ الأدواتِ والتكنولوجيا التي جعلتْه دائمَ الشعورِ بأنَّ عالمَه غيرُ حقيقيٍّ، لذلك يرغبُ دائمًا في تغذيةِ مشاعرِ الصدمةِ لديه عن طريق تلكَ الأدواتِ، ليشعر بها أنَّ العالمَ حقيقيٌّ، لقد أصبحَ عالمُنا غنيًّا لكنَّ قلوبَنا فقيرةٌ؛ لأننا نلهثُ خلفَ استهلاكِ مزيدٍ من مشاعرِ الصدمةِ، ونبقى في حالةِ تَرقُّبٍ دائمٍ لما هو قادمٌ.
يطرح لكروا حلولا أنه يجبُ أن نعيشَ الحاضرَ، لا أن نبقى في حالةِ تأهُّبٍ لما سيأتي، والتخلي عن التفكيرِ النفعيِّ، والإحساسَ بجمالِ العالمِ والأشياءِ كما هي، كما يجبُ أن نتخلَّى عن غريزةِ السيطرةِ، ونَتقبَّلَ فكرةَ وجودِ ما هو غيرُ خاضعٍ لسلطتِنا، ويجبُ ألا تكونَ رغبتُنا في تَملُّكِ الأشياءِ وتغييرِها عائقًا أمام استمتاعِنا بها. ببساطة؛ علينا أن نسمحَ لكلِّ ما هو موجودٌ بالوجودِ أن يبقى كما هو، وعَلينا أَنْ نقتنعَ أن نضوجَنا النفسيَّ والذَّاتي لن يكتملَ بنا وحدَنا، بل بانفتاحِنا على العالمِ وتأثرِنا به.
معلومات الكتاب:
العنوان: عبادة المشاعر.
المؤلّف: ميشال لكروا.
المترجم : د. أمين كنون.
الناشر: إفريقيا الشرق 2017.
عدد الصفحات:183 صفحة.