علم الأخلاق "الله كما يراه سبينوزا"
كتاب >>>> روايات ومقالات
وهنا يجب عدم الوقوع في اللبس الناتج عن الخلط بين الجوهر وصفاته، فتعدد صفات الجوهر المختلفة لا يعني أن هناك جواهر متعددة، وذلك ليس إلا طبيعة من طبائع الجوهر بأن تكون من هذه الصفات مُتَصَوَّرةً مستقلة بذاتها. وتلك الصفات تعبّر عن ماهية أزلية غير متناهية، وبها نستدل على كل ما ينتج عن صفات الله، فالأشياء التي يتكون منها الكون، بما في ذلك البشر، هي "صور" الله الناتجة والمحتوية على صفاته. هذا يعني أن كل شيء في هذا الكون يرجع ويعتمد على الله. وطبيعة هذا الاعتماد موضع نزاع. يقول بعض العلماء إن هذه الصور هي خصائص الله بالمعنى التقليدي. أو من آثار الله. في كلتا الحالتين تعتمد الصور أيضًا منطقيًّا على جوهر الله ، بهذا المعنى: كل ما يحدث يأتي من طبيعة الله ، ونظرًا لأنه كان على الله أن يكون مع الطبيعة التي لديه، لم يكن من الممكن تجنب أي شيء حدث، وإذا حدد الله مصيرًا معينًا لطريقة معينة، فلا بد منه.
يتناول سبينوزا العقل والجسد فيعدّهما في حالة تأثير متبادل. وحيث أننا نعرف عقولنا أفضل مما نعرف أجسادنا؛ فإنه يمكن الوثوق بحواسنا، وعلى الرغم من ذلك، فإن العقل والجسد شيء واحد، لكن يحصل التفكير فيه بطريقتين مختلفتين. فيمكن وصف الطبيعة بأكملها بالنظر إلى الأفكار أو الأجساد. ومع ذلك لا يمكننا المزج بين هاتين الطريقتين لوصف الأشياء والقول إن العقل يؤثر في الجسد أو العكس. أيضًا فإن معرفة الذات للعقل ليست أساسية: فهو لا يستطيع أن يعرف أفكاره الخاصة أفضل مما يعرف الطرائق التي يتصرف بها جسده من قبل أجسام أخرى.
لذلك فهذه المعرفة محدودة فالإدراك الحسي الذي هو "النوع الأول للمعرفة"، غير دقيق لأنه يعكس كيفية عمل أجسادنا أكثر من حقيقة الأشياء، ويمكننا أيضًا الحصول على نوع من المعرفة الدقيقة "النوع الثاني للمعرفة" أو "السبب". يشمل هذا معرفة الصفات المشتركة بين كل الأشياء، ويتضمن مبادئ الفيزياء والهندسة، ويمكننا أيضًا أن نحصل على "معرفة من النوع الثالث" أو " معرفة حدسية ". هذا نوع من المعرفة، بطريقة ما يربط أشياء معينة بطبيعة الله.
أما سلوك الإنسان وانفعالاته هي جزء من دراستنا الطبيعةَ، لا شيء مما يحدث في الطبيعة يكون ناتجًا عن عيب أو نقص فيها، أما ما نفترضه غير ذلك فهو مجرد اعتبارات نضفيها نحن على الأفعال والسلوكيات. مما يوجب علينا معرفة الانفعالات و السلوك الإنساني انطلاقا من قوانين الطبيعة و قواعده. وأما النفس و الجسم فهما شيء واحد، واختلافهما بسبب الكيفية التي ندرك ونفكر بكل واحدة منهما على حدة.
"إننا لا نسعى إلى شيء و لا نريده ولا نشتهيه ولا نرغب فيه لكوننا نعتقده خيرًا، بل نحن، على العكس من ذلك، نعدّه خيرًا لكوننا نسعى إليه ونريده ونشتهيه و نرغب فيه".
يرى سبينوزا أن عبودية الإنسان تكمن في عدم قدرته على السيطرة على انفعالاته والتحكم فيها، ليجد نفسه مُجبَرا على اتباع نماذج مصممة مسبقًا على الرغم من أنه قادر على الاختيار، فيكون العمل كاملًا أو ناقصًا على قدر موافقته للنموذج الأفضل سعيًا منا إلى الحصول على الكمال متناسين أن هذا الكمال والنقص ليسا إلا أنماطًا فكرية؛ لذا ترانا مدفوعين للبحث عن ما يمنح المتعة ونبذ ما يسبب الألم.
والحرية تتمثل بنبذ المشاعر المؤلمة تلك التي تجعلنا سلبيين بمقابل المشاعر المبهجة، تلك التي تجعلنا نشيطين وايجابيين ومن ثم مستقلين. فالعواطف الجيدة تتعلق بالمعرفة الصحيحة التي تعتمد على أوامر العقل وتحث الشخص دومًا على أن يمارس ما يحافظ على نفسه ويحب ذاته ويقوم بما هو في خيرها ويلائم طبيعتها ليحقق بذلك الفضيلة.
فالسلوك المحكوم بالفضيلة مشروطٌ بالمعرفة لا بالانفعال، فنحن نحدد الخير والشر يقينًا بما يؤدي بالنفس إلى الفهم أو ما يحول دونه، فكلما كان اتباعنا العقلَ أكثر، تمسكنا بخير أكثر وشر أقل، وزادت حريتنا وقلت عبوديتنا الانفعالَ والأهواء.
وفي حين إن العقل هو المتحكم في تأثيرات السعي وراء الفضيلة التي من خلالها يحافظ من خلالها على الذات، وبمساعدة العقل فحسب يمكن للبشر أن يميزوا المشاعر التي تساعد الفضيلة حقًّا عن تلك التي هي ضارة في النهاية. وعن طريق العقل، يمكننا أن نرى الأشياء كما هي حقا ولأن الله والطبيعة لا يمكن تمييزهما، من خلال معرفة الأشياء كما هي، فإننا نحسن معرفتنا بالله بالنظر إلى أن كل الأشياء التي تحددها الطبيعة، فبازدياد المعرفة تزداد معرفتنا بالذات الإلهية، ويزداد انبساط النفس لينتقل الإنسان إلى أرقى درجات الكمال الإنساني.
معلومات الكتاب:
اسم المؤلف: باروخ سبينوزا
اسم المترجم : جلال الدين سعيد
دار النشر : المنظمة العربية للترجمة _ بيروت. تشرين الأول 2009
عدد صفحات الكتاب: 374 صفحة.