كانط وأخلاق الواجب (Deontology)
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> علم الأخلاق وعلم الجمال
ما الرابط بين حرية الإرادة والأخلاق؟
تشغل الحرية دورًا مركزيَّا في فهم كانط للأخلاق؛ لأنَّ إمكانية إصدار أحكام أخلاقية تفترض وجود حرية الإرادة مسبقًا (1)، فوفقًا لكانط، نحن نملك حرية الإرادة في أفعالنا، وبرهن على هذا الادعاء بالإشارة إلى امتلاك البشر للضمير والإحساس الفطري بالأخلاق، وبسبب قناعتنا بأنَّنا مسؤولون أخلاقيًّا عن أفعالنا، بغض النظر عن اختلاف البشر في مصدر هذه السلطة الأخلاقية سواءً كانت دينية أو اجتماعية، أو في الاختلاف حول الفعل الأخلاقي الأنسب في ظرف ما أو في تصرُّفنا على نحو مخالف لإحساسنا بواجبنا الأخلاقي، فيقول كانط إنَّه لو لم تكن الحرية موجودة لما كان لدينا الوعي بهذا الضمير الأخلاقي، ولما راودت البشر الفكرة عن عالم تسود فيه الفضيلة والخير الأسمى (3)، ولعلَّ تبرير كانط غير كافٍ، ومع ذلك، فمن غير المستغرب أن نفكِّر بأنفسنا بصفتنا بشرًا على أنَّ لنا الحرية في التصرف، فكانط يتفق مع وجهة النظر السائدة القائلة بإنَّ الطريقة التي أختارُ أن أتصرَّف بها تؤثر في الطريقة التي سأتصرف بها مباشرةً، حتى ولو كان من الممكن التنبُّؤ بتصرفاتي بطريقة علمية، فمثلًا؛ عندما أريد شراء سيارة، لا تعنيني الآلية التي يعمل بها جهازي العصبي أو إذا ما بإمكان أحدهم التنبُّؤ بالسيارة التي سأشتريها، فمن منظوري الشخصي، ما زلت في حاجة إلى الاطلاع على آراء الخبراء ومراجعة الخيارات المتاحة أمامي قبل شرائي لسيارة ما (1).
هل يتصرف البشر على نحو عقلاني أم وفق رغباتهم؟
وعلى الرغم من اعتقاد كانط بأنَّنا كائنات عقلانية، ولكنَّه أدرك أنَّ البشر يتصرَّفون وفق رغباتهم أيضًا، وهنا تكمن حاجتنا إلى مبدأ نعرف من خلاله كيف نتصرَّف عندما يكون في مقدورنا الاختيار، فنظرًا إلى أنَّنا نمتلك العقل على عكس الكائنات الأخرى، ونمتلك القدرة على التصرُّف وفقًا لمفهومنا الخاص للمبادئ، يقع على عاتقنا عبء خاص، فإذا أردنا أن نكون عقلانيين، علينا أن نمارس إرادتنا وفقًا للمبادئ التي يوفِّرها العقل، وهنا نواجه مشكلتين، الأولى هي إمكانية تصرُّفنا على نحو غير عقلاني أي وفقًا لرغباتنا، والثانية هي أنَّنا وإن تصرفنا على نحو عقلاني، فنحن غالبًا غير قادرين على تحديد التصرُّف الأمثل أخلاقيًّا، خاصة عند تعاملنا مع بعضنا بصفتنا بشرًا (1).
ماذا يقصد كانط بالمبدأ (Maxim)؟
اعتقد كانط أن أيَّ فعل أو تصرُّف دائمًا ما يكون مبنيًّا على قانون أو مبدأ ما، والمبدأ (Maxim) هو قاعدة شخصية تشرح لماذا نتصرَّف بطريقة ما دون الأخرى، وهذه المبادئ تتحكَّم بأفعالنا وبالدوافع وراء الفعل على نحو واع أو غير واع، وقد لا نتصرف باستمرار وفق المبدأ نفسه، وليس من الضروري أن تكون مبادئنا متَّسقة مع بعضها بعضًا، ويرى كانط أنَّه نظرًا إلى أنَّنا كائنات عقلانية، فإنَّ أفعالنا دائمًا ما تهدف إلى غاية ما، وهي ما تعبَّر عنه مبادئنا (3).
وميَّز كانط بين نوعين من المبادئ الأساسية التي تحدِّد أفعالنا وهما المبدأ المادي والمبدأ الرسمي، فتصرُّف الإنسان وفقًا لرغبته هو تصرُّف وفقًا للمبدأ المادي، فإذا شعرتُ بالجوع مثلًا، سأتناول الطعام تلبية لرغبتي، وفي المقابل، التصرُّف وفق المبدأ الرسمي هو التصرُّف بطريقة معينة دائمًا دون الرجوع إلى رغباتنا الشخصية، وهو ما يُسميه كانط بالضرورة الحتمية، فتقتضي الضرورة الحتمية بالتصرُّف بطريقة ما بغض النظر عن رغبتنا، وتنطبق هذه الضرورة على الجميع دون استثناء؛ لأنَّها لا تتعلق برغبتنا الشخصية، وهنا يستنتج كانط بأنَّ التصرُّف وفقًا للمبدأ المادي لتلبية رغباتنا الشخصية هو تصرُّفٌ غير حرٍّ لأنَّه لا يمكننا التحكُّم برغباتنا تحكُّمًا كاملًا، والتصرُّف وفقًا لرغباتنا يعني تفضيل الطبيعة على العقل (3).
ويجب الإشارة إلى أنَّ كانط لا يهدف إلى التخلِّي عن رغباتنا، فهذا أمر مستحيل، وإنَّما فقط التساؤل عن مدى إمكانية عدِّ مبدأ ما مبدأً كونيًّا (Universal) قابلًا للتعميم، ويعطينا كانط المثال الآتي: لنفترض أنني أطبِّق مبدأ زيادة ثروتي بكل الطرق الآمنة، ولنفترض أنني أمتلك وديعة مالية مات صاحبها ولم يترك أيَّ دليل على إعطائي الوديعة، فوفقًا لمبدئي، يُعدُّ استيلائي على هذه الوديعة طريقة آمنة لزيادة ثروتي، ولكن لكي نعرف إذا كان بالإمكان عدُّ هذا المبدأ كونيًّا، ومن ثمَّ أخلاقيًّا، علينا أن نتخيل إنكار الأشخاص جميعًا وجود ودائع مالية لديهم لمجرد عدم وجود دليل ملموس، ومنه، سيقضي هذا المبدأ على نفسه؛ لأنَّه سيؤدي إلى عدم وجود أيَّة ودائع مالية على الإطلاق، فلا يمكن عدُّه مبدأً كونيًّا، ومنه، هو مبدأ غير أخلاقي (3).
ولنأخذ مثالًا آخر، فإذا رأيتُ شخصًا بحاجة إلى مساعدة، ممَّا يولَّد لدي شعورًا بالتعاطف، ومن ثمَّ توجَّهت إلى مساعدة هذا الشخص انطلاقًا من مشاعري، ومع أنَّ هذه الرغبة قد لا تكون موجودة عندما يحتاج شخص آخر المساعدة، ولكنَّ هذا الفعل يُعدُّ كونيًّا (قابلًا للتعميم) بنظر كانط على الرغم من أنَّه ناتج عن رغبة، ولكنَّه لا يُعدُّ تصرفًا حرًّا أيضًا، ويكون حرًّا فقط عندما يوفِّر المبدأ الرسمي غير المشروط (كمساعدة الآخرين بغض النظر عن شعوري تجاههم) الدافع الأساسي لهذا الفعل، إذًا نستنتج أنَّ الفعل الأخلاقي عند كانط يكتسب قيمته الأخلاقية من كونه قابلًا للتعميم، ومن كونه يُنفِّذ لذاته لا لرغبة أو غاية ما، وبغض النظر عن توافق أو عدم توافق رغبتي مع هذا المبدأ (3).
ولحد الآن، نحن نكون قد حدَّدنا الإطار الخارجي للمبدأ الأخلاقي الأمثل، ولكن ماذا عن محتوى هذا المبدأ؟ وما الواجب الأخلاقي الكانطي؟
يعرِّف كانط الواجب الأخلاقي على أنَّه يشمل الإرادة الخيِّرة (2)، ويخبرنا بأنَّه يستحيل النظر إلى أي شيء في العالم على أنَّه خيرٌ مطلق سوى هذه الإرادة الخيِّرة، ومع الإشارة إلى أنَّ هناك أمور خيِّرة أخرى كالصحة الجيدة أو حتى السعادة، ولكنَّها خيِّرة بشرط وجود إرادة خيِّرة، ويشير كانط إلى أنَّ الإرادة الخيّرة لا تعتمد على النتائج المترتبة عليها لتكتسب أخلاقيتها، وإنَّما على الدافع وراءها فحسب، فعلى سبيل المثال، لا يمكن عدُّ زيارة شخص مريض فعلًا خيِّرًا في ذاته، وإنَّما يعتمد على الدافع وراء هذه الزيارة، ولنفترض أنَّ الزائر أحضر بعض الأزهار للمريض، ولكنَّ شخصًا آخر موجودًا في المكان نفسه يعاني من حساسية قوية تجاه الأزهار، فهذا أيضًا لا يؤثر في كون الإرادة الخيِّرة خيرًا مطلقًا في ذاتها (3)، فالإرادة الخيِّرة هي المعيار الأمثل لتحديد الفعل الأخلاقي بنظر كانط، وأيُّ دوافع ونوايا أخرى يمكن استعمالها لأغراض غير أخلاقية، وأخيرًا، يعتقد كانط أنَّ الإرادة الخيِّرة لا يمكن أن تستند إلى الرغبات والأهواء حتى ولو توافقت هذه الرغبات مع الواجب الأخلاقي، فلا يكفي أن يتجنَّب شخص ما السرقة امتثالًا للقانون وخوفًا من أن يُكشف أمره، بل من الأفضل ألَّا سرق امتثالًا للإرادة الخيِّرة في ذاتها، ونلاحظ أنَّ الفعل لم يتغير ولكن طريقة التفكير والوصول إلى هذا الفعل مختلفة، فالواجب الأخلاقي هو البوصلة الموجهة لأفعالنا وعن طريقه يصبح الفعل أخلاقيًّا (1).
المصادر:
2. Uleman JK. An introduction to Kant’s moral philosophy. Cambridge: Cambridge University Press; 2010. Available from: هنا
3. Rohlf M. Immanuel Kant [Internet]. Stanford University; 2020 [cited 2023 May 22]. Available from: هنا.