إيميلي برونتي وتجلِّيات الرومانسية في عوالم شِعرِها
التعليم واللغات >>>> الأدب والشعر
يبدو أن إيميلي برونتي (Emily Brontë) كانت تملك سحرًا خاصًّا بين جميع الكاتبات؛ إذ استطاعت الحفاظ على بريقها ونزاهتها على الرغم من حياتها القصيرة التي لم تكن سعيدة تمامًا (1).
توفيت عن عمر يناهز الثلاثين، وكل ما عُرف عنها جاء تقريبًا من خلال كتابات الآخرين، وتحديدًا من منظور أختها شارلوت (Charlotte) (2).
Image: https://www.linns.com/images/default-source/news/emily-bronte-great-britain-commemorative.jpg?sfvrsn=e850afcc_0
لكن يبدو أن شارلوت برونتي لم تتمكَّن من فَهم إيميلي إلا من وجهة نظر الأخت، فلم تستطع تفسيرَ حياتها وعملها من خلال التعريفات الڤيكتورية المبكرة للمرأة والكتابة النسوية، الأمر الذي جعلها تُقدِّم إيميلي على أنها شخصية منقسمة ومتضاربة (3).
وانطلاقًا من الاهتمام المتجدِّد في الآونة الأخيرة بهذه الكاتبة الغامضة، ستوضح لنا التحليلاتُ أدناه شخصيةَ إيميلي من خلال تتبُّع معالم شِعرِها غير المُستكشفة والطرائق التي يرتبط شِعرهُا من خلالها بمفاهيم رومانسية تدل على خيالها الإبداعي.
Image: https://gallica.bnf.fr/blog/sites/default/files/bronte_image_une_0.jpg
تُعدُّ الرومانسية -سواءً كانت فلسفية أم لاهوتية أم جمالية- ثورةً في العقل الأوروبي ضدَّ التفكير القائم على آلية ثابتة. والرومانسية فعليًّا لا ترتبط كثيرًا بالأمور التي يُعتقَد شعبيًّا أنها رومانسية، مثل الحب بجوانبه المختلفة؛ إلا أن هذه الأمور تؤدي بالتأكيد دورًا رئيسًا في ديناميكية المفهوم. وقد وجَّه الرومانسيون الأوائل، مثل ويليام وردزورث (William Wordsworth) على وجه الخصوص، خيالَهم الإبداعي كثيرًا لاستكشاف الطبيعة الخارجية التي تتجلَّى في الذات الداخلية. وبدأ الرومانسيون اللاحقون تدريجيًّا بالعمل على الحوار بين الداخل والخارج، في حين مالت إيميلي برونتي في شِعرِها إلى التركيز على ذاتها الداخلية لتصوِّر العالم الخارجي. يتمتَّع عملُها بخاصيَّة صوفيَّة غامضة غير مسبورة الأغوار؛ هذه الخاصية التي أصبحت تُعرف بالرومانسية. ولكن كان يتحول العرض للذات الداخلية أحيانًا إلى إحدى الأشكال القوطية (Gothic) هنا المُخيفة التي تُعدُّ هي أيضًا جزءًا من مظاهر الرومانسية. وقد تميَّزت موضوعاتُ قصائد برونتي بالحب والموت والعزلة والتمرُّد. كذلك أصبح أسلوب برونتي وشِعرُها كإحدى تقاليد الخطابات الحماسية الشعرية والدينية في القرن الثامن عشر، بسبب ما وجدته وتأثرت به في مكتبة والدها من دواوين شعرية لشعراء كإدوارد يونغ (Edward Young)(2). إضافةً إلى قصائد الشعراء الإنكليز جورج بايرون (George Byron) وبيرسي شيلي (Percy Bysshe Shelley) التي كانت المفضلة لدى إيميلي (3).
وكان لجميع هؤلاء الشعراء التأثير الكبير في فكرها، إذ غرسوا فيه نوعًا من التسامي الروحي. إلا أنَّ هناك البعض مِمن ذهبوا للقول بأنَّ إيميلي تلاعبت بمقياس الترنيمة لإنشاء نوعٍ مناهضٍ للرومانسية التقليدية.
انصبَّ تركيز برونتي أكثر على الموت، وكان يُشبه هذا التركيز إيميلي ديكنسون (Emily Dickinson) واهتمامها بالموت وليس الدين. وعلى الرغم من أنها عاشت تاريخيًّا بين الفترة الرومانسية والڤيكتورية، إلا أنها قُدِّمت بوصفها رومانسيةً بسبب مزاجها وصياغتها والأشباح الضبابية التي تُغلِّف عالمها الشعري، كما في (The Night of Storms has Passed). وإذ إن كثيرًا من الصور التي تستخدمها تُذكِّرنا بالخيالات المُرعبة والقاتمة التي نجدها في قصيدة (The Grave) للشاعر (Robert Blair)، ونستطيع القول بأن المزاج الشعري لإيميلي برونتي كان منغمسًا أكثر وبوضوح في الجانب الرومانسي (2).
يمكن للقارئ أن يلاحظ من خلال اللمحات المتفرقة لقصائدها كيف تجلَّت الرومانسية في شِعرِها واهتمامها المشترك للموضوعات نفسها التي في شعر جون كيتس (John Keats) وشيلي. فنلاحظ هذا في قصيدتها (Love and Friendship):
الصداقة مثل شجرة الهولي (Ilex aquifolium)
تَسوَدُّ الشجرة المقدسة عندما
تُزهر الوردة
لكن أيهما سيُزهر باستمرار أكثر؟
إنَّ الحب عند إيميلي هو عاطفة متعدِّدة الأوجه، ومفعمة بالحيوية، ولكنها في الوقت ذاته تُمزِّق القلب وتسبب الألم.
وعلى الرغم من الانفعال الكئيب الذي تزخر به هذه القصائد؛ لكنها تتمتع بالشعر الغنائي الجميل كما في (A Day Dream)، وتُجسِّد برونتي الخيال بأسلوب الرومانسيين في (To Imagination)، وتشكو مستخدمةً الخيال الرومانسي في ( Beautiful the Earth is Still) وفي تحفتها الرومانسية (No Coward is Mine).
إنَّ التصوف سِمةٌ رومانسيةٌ مميزةٌ للغاية في شِعر برونتي. ويمكن للقارِئ أن يتتبَّع فيه جميعَ مراحله الثلاث من: التطهير إلى التنوير وصولًا إلى الاتحاد بالإله. تعتقد إلين مورز (Ellen Moers) أنَّ وجود إيميلي في بيئة تُحيط بها المستنقعات الممتدة شكلت لديها مشاعر مُحيطية بطبيعتها؛ ما جعلها نموذجية للتصوف عند برونتي. ويمكننا ملاحظة وجود التصوف بشكل واضح جدًا في عدة قصائد لها مثل: (neath Stormy Blast) و (High Waving, Weather). وتتجلى برونتي كصوفية حقيقية من خلال فهمها الصائب للقيم، وإدراكها للقيمة الزائفة للأشياء المادية، حتى في الطبيعة التي أحبتها، وخلال وصفها للنشوة والفرح المؤلم في الذات الداخلية لمن ذاق هذه التجربة. ويعتقد العديد من النقّاد أنّ برونتي تُدرك أن الأشياء العادية تحمل سر الكون، وتملك إحساسًا باستمرارية الحياة ووحدانية الإله والإنسان كما يتضح في قصيدة (Remembrance) التي تُمجد برونتي من خلالها الروح (2).
إنّ خيال برونتي المتسامي يُمكِّنها من رؤية الأشياء بعمق وبطريقة حدسيَّة؛ الأمر الذي يُمكننا أن نجده في قصيدة (No coward soul is mine):
الإله القدير الدائم الوجود
إن الحياة التي في داخلي راحة
لأن حياتي الأبدية، قوتها فيك
اختارت برونتي في إحدى قصائدها الإلهَ الكامنَ في الداخل وفضَّلته على الرغبات المتمحورة حول الإنسان:
وتلاشت الشموس والأكوان
وتُركتَ أنتَ وحيدًا؛
سيكون كُل وجودٍ فيك موجود
وعلى الرغم من أنَّ خيال برونتي الرومانسي في هذا النص يوازي خيال الشاعر الإنكليزي صامويل كوليردج (Samuel Coleridge)، وعلى الرغم من أنَّ أقوى حالات شِعرها تبدو مستوحاة من كيتس وشيلي؛ إلا أنَّ رومانسيتها ليست مقيدة بهما، بل متطورة وتنمو تدريجيًّا وبجدَّة دومًا (2).
Image: https://hips.hearstapps.com/hmg-prod/images/tcx020123oaopener-001-1671656696.jpg?crop=1.00xw:1.00xh;0,0&resize=1200:*
ثم إنَّ شغف إيميلي برونتي بالإنسانية الذي جسدته بعاطفة قوية في روايتها مرتفعات ويذرينغ (Wuthering Heights)؛ يظهر جليًّا في هذه السطور من قصيدتها الفيلسوف (The Philosopher):
ولا يمكن لأيِّ جهنم؛ مهما اتَّقدت نيرانها،
إخضاع هذه الإرادة التي لا تخمد (1)
لا شك في أنَّ برونتي لو بقيت على قيد الحياة حتى سنِّ الأربعين، لكانت حافظت على إبداعها السابق وأضافت كثيرًا إلى روح الرومانسية، فهي لم تكن شحيحة الخيال؛ إذ لم تكن ظروفُها العائلية المثيرة للشفقة وحياتُها الصارمة الذاتية الانضباط عائقًا لازدهار خيالها. من الصعب تقييم أصالة أعمال إيميلي، خاصةً أنها كتبت القليل جدًّا في حياتها القصيرة. يبدو الأمر وكأنها ولدت لتشعر بأن هناك أشكالًا معينة من الشِّعر تُشبه كيانها الداخلي، فسكبت فيها مشاعرها بصدق آسرٍ يُمكِّن القارئ من أن يشعر به من خلالها (2).
المصادر: