مقدرتُنا اللغويةُ الفريدة .. اختبارُ الـ"واغ"
التعليم واللغات >>>> اللغويات
ما هذا المخلوقُ اللطيفُ ولماذا تمَّ اختيارُهُ كشعارٍ دائمٍ لهذا الفريق؟ في مقالِنا التالي سنستَعرضُ سويةً أصلَ هذا المخلوقِ وآليةُ استخدامهِ في مجالِ الدراساتِ اللغوية.
توصّلتِ الباحثةُ جان بيركو غليسن في عام 1958 إلى نتائجَ هزَّت عالمَ اللغوياتِ وذلكَ عن طريقِ قيامِها بدراسةٍ تبحثُ في كيفيةِ اكتسابِ الأطفالِ للغةِ الإنكليزيةِ، وذلك في محاولةٍ لمعرفةِ ما إذا كان الأطفالُ يملكونَ معرفةً لغويةً تتجاوزُ ما سَمعوهُ مسبقاً ممّن حولَهُم. أرادت غليسن اكتشافَ مدى قدرةِ الأطفالِ دونَ سنِّ المدرسةِ على تحويلِ الأسماءِ المفردةِ إلى صيغةِ الجمعِ و تحويلِ أزمنةِ الأفعالِ، أو استخدامِ صيغِ المُلكيةِ وقد وصَلتْ إلى نتائجَ مبهرةٍ.
لم يكُنْ مجدياً استخدامُ كلماتٍ مألوفةٍ للأطفالِ مثل كلمة "قطة" في مثلِ هذا البحث، وذلكَ من أجلِ تحييدِ احتمالِ تقليدِ الأطفالِ لما سمعوهُ مسبقاً من البالغين دون استخدامِ مقدرتِهم اللغويةِ الفعلية. لذلكَ اخترعت غليسن مخلوقاً خرافياً صغيراً وأسمته "الواغ" (Wug). وكانت غليسن متأكدةً من أنّ هذا الاسمَ لم يمُرَّ على مسامعِ الأطفالِ من قبل وذلكَ لكونهِ اسماً مُختلقاً لا ينتمي للغةِ الإنكليزيةِ أصلاً. عرضت غليسن على الأطفالِ صوراً للواغ وقالت: "هذا واغ"، ثم عرضت لهم صورةً أُخرى تحتوي على "واغ" آخر وقالت: "والآن لدينا اثنان منهم.. لدينا اثنان من......؟؟" فما كان من الأطفال إلا أن أكملوا الجملةَ وقالوا "واغز" (Wugs).
بيّنت هذه الدراسةُ قدرةَ الأطفالِ على تشكيلِ الصيغِ النظاميةِ من الأسماءِ المختلفةِ والفعلِ الماضي منذ سن الرابعة، كما أظهرت أيضاً قدرةَ الأطفالِ على فهمِ واستخدامِ قواعدَ نحويّةٍ معقدةٍ لم تُلقن لهم من قبل، ومن ثمَ تعميمِها على كلماتٍ أُخرى لم تمرَّ على مسامعِهم مسبقاً وذلك عن طريقِ ربطِ النهاياتِ المناسبةِ بأسماءٍ وأفعالٍ مُختلقة. في الواقع، تمكنت غليسن من التوصلِ إلى الآليةِ التي يستخدمُها الأطفالُ في مراحلِهم الأولى لتَعلُّمِ الصرفِ النُحويِ لأي لغةٍ. حيثُ يبدأُ الأطفالُ بعمليّةِ حفظٍ غَيبيٍّ لثُنائياتٍ منَ الكلماتِ التي سَمعُوها مِمَن حَولِهم، ويحتَوي كُلُ ثنائيٍ على كلمةٍ في صيغةِ المفردِ وما يُقابلها في صيغةِ الجمعِ. يقومُ الأطفالُ لاحقاَ باستنتاجِ القواعدِ والأنماطِ اعتماداً على هذه الثنائياتِ ليتَمكَنُوا من استخدامِها مع مفرداتٍ جديدة. تُعدُ دراسةُ غليسن أولَ دراسةٍ تُثبت أنَّ الأطفالَ لا يكتسبون اللغةَ عن طريقِ حفظِ الكلماتِ وحسب، بل يقومون باستنتاجِ القواعدِ اللغويةِ لتَعمِيمِها واستخدامِها بِبَراعةٍ لاحقاً.
قد لا تكونُ هذه المقدراتُ اللغويةُ مُدهشةٌ لدى البالغين كالمقدراتِ اللغويةِ الفريدةِ التي استطاعت غليسن إثباتَ وجودِها عند الأطفال، حيثُ أثبتت أنهم يملكونَ معرفةً ضمنيةً لقواعدِ الصرفِ اللغوية. ونظراَ لأهميةِ هذا الاختبارِ تمّ استنساخهُ إلى لغاتٍ أُخرى غيرِ اللغةِ الإنكليزيةِ كما تمَّ استخدامُهُ في دراسةِ الأطفالِ الناطقينَ بلُغتين ودراسةِ الاعتلالاتِ اللغويةِ عندَ الأطفالِ والبالغين.ولا يزالُ يُستخدمُ هذا الاختبارُ حولَ العالم في دراساتِ اكتسابِ اللغةِ لدى الأطفال وقد تمَّ تضمينهُ في معظمِ مقرراتِ علمِ اللغةِ النفسيِ، حيثُ يُطلبُ من طلابِ هذا الاختصاصِ القيامُ بدراساتٍ عمليةٍ مشابهةٍ لاختبارِ الـ"واغ".
ومن الجديرِ ذكرُهُ أنّ جين بيركو غليسن هي بروفيسورةٌ متقاعدةٌ في قسمِ العلومِ النفسيةِ والدماغيةِ في جامعةِ بوسطن، وقد حظيت بشُهرةٍ عالميةٍ لمُساهمَتِها في فهمِ عدةِ مواضيع تتعلقُ باكتسابِ اللغةِ لدى الأطفال و تعذّرِ النطقِ والتفاعلِ اللغويِّ بينَ الوالدينِ والأطفالِ، والاختلافاتِ المُرتبطةِ بنوعِ الجنسِ ودورِها في تطورِ اللُغة. وقد قُوبلت دراسةُ غليسن بترحيبٍ كبيرٍ من وسطِ علماءِ اللغةِ وذلك لبساطةِ أسلُوبِها وأهميتِه في مجالِ اللغوياتِ. بل أنّ هناكَ من وقعَ في حبِّ الواغ من علماءِ اللغةِ واعتبروهُ جالباً للحظِ حتّى أن بعضَهم قامَ بوشمِ الواغ على جسده.
وببساطةٍ يُمثّلُ الـ"واغ" مقدرتَنا اللغويةَ الفريدةَ التي تُمكننا من تشكيلِ عددٍ لا متناهٍ من القواعدِ والعباراتِ الجديدةِ التي لم تمر على مسامعنا مسبقاً، وهذا بطبيعةِ الحالِ ما يُميُّزُنا عَنْ غيرِنا منَ الحيواناتِ ذاتِ المقدرةِ اللغويةِ المحدودةِ كالببغاواتِ والقردة، فحتى إن استطاعت هذه الحيواناتُ تقليدَ بعضِ الكلماتِ بعدَ الكثيرِ منَ الجُهدِ والتدريب، لن يتمكنوا من استنتاجِ أي قواعدَ لافتقارِهم لمَلَكَةٍ اللغة التي يتفرَّدُ بها الإنسانُ على هذا الكوكب.
لذا، وفي كل مرةٍ تَرى فيها شعارَ فريقِ اللغوياتِ من مبادرةِ "الباحثونَ السوريون".. ابتسم.. واعلم أنك تملكُ موهبةً فريدةً لا مُتناهيةً هي اللُغة.
المصادر:
هنا
هنا