الرأسمالية والإنسانية: كشف الأقنعة
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> علم الاجتماع
وفي هذا السياق تظهر حاجة أخلاقية ملحة إلى التعاطف العام عن طريق الاهتمام بمعاناة الآخرين مصحوبة بدافع المساعدة، ويوجد تفسيران لكيفية تطور التعاطف العام، يرتبط الأول بالديمقراطية التي تقلِّل الاختلافات الاجتماعية ما يزيد من التعاطف، أما الآخر فيرتبط بظهور مجتمع السوق الذي يحوِّل التعاطف العام إلى لغة حداثية في مجتمع يفرض التعامل بالعقود والمقايضة بين أفراده، وفي حين يوجد عدم مساواة في توزيع الثروات بين البشر، ولكن بعضهم غير متساويين أكثر من غيرهم، وتزيد الرأسمالية بوصفها نظامًا اجتماعيًّا واقتصاديًّا من عدم المساواة ما ينعكس سلبيًّا على معظم البشر، وقال مكيافيلي ذات مرة (Niccolò Machiavelli 1469-1527): "سيرى كل الناس ما تبدو عليه ولكن قلة منهم سيعرفون جوهرك"(2,3)، وربما معظمهم لن يروك.
اعتقد جوزيف شومبيتر (Joseph Schumpeter 1883-1950) أن الرأسمالية -على الرغم من كونها نظامًا اقتصاديًّا ناجحًا- معرضة للتدهور؛ لأنها لم تبتكر صيغة جديدة للأخلاق دون تدمير تلك التي ورثتها، وبالنسبة إليه هناك 'تناقض' مأساوي بين الوسائل الضرورية لأداء الرأسمالية الاقتصادي والوسائل الضرورية لتشريعها الاجتماعي، واستنادًا إلى هذه النظرة، يعد التعاطف العام غير متوافق مع منطق المصالح السائد في سوق الاقتصاد، بل هو محض آثار 'متبقية' من العصور التي سبقت الرأسمالية والعوامل غير الاقتصادية التي تحدد السوق، وفي الوقت ذاته اعتقد أدورنو (Theodor W. Adorno 1903-1969) وهوركهايمر (Max Horkheimer 1895-1973) أن أساس 'التعاطف' هو محض رغبات نرجسية للبرجوازية الاستغلالية لتشعر بالرضا عن نفسها، ولم تترك هذه الأفكار مجالًا لاحتمال أن يطوِّر المجتمع المعاصر أي حس من المسؤولية الأخلاقية، فهي تحجِّم السوق وتصفه بالربحي (2).
وطالما ارتبطت الفروقات الاجتماعية-الاقتصادية بمدى الحياة ومعدل الوفيات، فالذين يملكون حالة اجتماعية-اقتصادية أعلى يعيشون وقتًا أطول، أما الطبقات الأقل حظًّا فتكون معدل حياتهم أقصر، وتموت نسبة كبيرة من العاملين في كثير من الدول إثر حوادث أو أمراض ناجمة عن مكان العمل (ويبدو أن رؤوس الأموال يفضلون دفع التعويض على تهيئة بيئة العمل لتكون أكثر أمانًا) (2).
استغلال التعاطف لدوافع رأسمالية- أوليفر تويست مثالًا إن أوليفر تويست هو الشخصية الرئيسة في رواية أوليفر تويست للكاتب تشارلز ديكنز (Charles Dickens 1812-1970)، وبدأ أوليفر تويست حياته بوصفه "عنصرًا للفناء"؛ إذ وُلد دون رعاية أبوية أو منزل أو هوية، وحين توفيت أمه فقدَ مصدره الأساسي للتعاطف. إن العالم الذي وُلِد فيه أوليفر عامله على أنه شيء، فمثلًا قال حاجب الملجأ الذي ترعرع فيه إن الفقراء لا يحتاجون إلى روح أو عنفوان واستكثر عليهم حصولهم على جسد حي، وكل من أراد أوليفر كان لغاياته الشخصية التي لا تُعنى بأوليفر.
وبالنسبة إلى ديكنز إن التعاطف الغريزي والإحسان أمران طبيعيان بالنسبة إلى الإنسان ولكن الظروف قد تهدد وجودها، ويجمع ديكنز لغة الإحسان العاطفي ودافع المصالح المحسوبة في شخصية قائد عصابة من الأطفال النشالين في الرواية؛ إذ ينظم اللصوص أنشطتهم ويعبِّرون عن وظائفهم في سياق رأسمالي كما في عالم النهار في الجهات الرسمية تمامًا، وللصوص جميعهم مهمات مميزة في عملهم، ويحاولون صقل مهاراتهم كالموظفين العاديين، ويدرسون تفاصيل كل "وظيفة" مسبقًا، وعلى الرغم من أنهم يقبلون ضمنيًّا القواعد الاقتصادية والنفسية للرأسمالية ولكنهم يرفضون أشكالها الاجتماعية البرجوازية، ولكن رئيس العصابة استمر في استخدام لغة الرأسمالية الحرة لأنها تفيده ولأن أوليفر يمكن أن ينساق إلى أداء المهمات إذا وُضِعت في صيغ "محترمة".
بالإضافة إلى أن رئيس العصابة تبنَّى قيم البرجوازية ونشاطاتها والمجتمع الرأسمالي الذي نبذه، إنه رأسمالي في العالم السفلي وما جعله أخطر على أوليفر هو معرفته الثاقبة للطبيعة البشرية إذ إنه تعرف على حاجة أوليفر للتعاطف واستغلها (4).
هل برأيكم -أصدقاءنا- أننا نتجه إلى عالم مجرد من التعاطف؟
المصادر:
2. Sznaider N. The sociology of compassion: A study in the sociology of morals. Cultural Values [Internet]. 1998 [cited 2023 November 14];2(1):117–39. Available from: هنا
3. Stevenson P. Capitalism and inequality: The negative consequences for humanity. Contemporary Crises [Internet]. 1982 [cited 2023 November 14];6(4):333–71. Available from: هنا
4. Patten RL. Capitalism and compassion in “Oliver Twist”. Studies in the Novel [Internet]. 1969 [cited 2023 November 14];1(2):207–21. Available from: هنا