مراجعة رواية "المزدوج": العيش داخل نفسك!
كتاب >>>> روايات ومقالات
وقد كشفت هذه الرواية اهتمام الكاتب بالشخصيات التي تختبأ في أعماق كل شخص منا، يتناول دوستويفسكي موضوع الجنون والصراع الداخلي الذي يعيشه بطل الرواية "جوليادكين" والذي يعمل موظفاً في إحدى المؤسسات في بطرسبورغ، عندما يواجه نسخةً من نفسه تتناقض مع مبادئه وأفكاره الذاتية، وكل المشاعر التي ترافقه من خوف وافتراض وقلق في حين ينظر إلى نسخة أخرى من نفسه.
_ (لم يتمنَّ أن يهرب من نفسه فحسب، وإنما كان يتمنى أن يزول من على سطح الأرض تماماً، أن لا يبقى له أي وجود، أن يتحول إلى رماد. لم يكن يسمع شيئاً حوله في تلك اللحظة، ولم يكن يفهم شيئاً ممَّا يحدث، كان مظهره يوحي بأن الأشياء من حوله لم يعد لها وجود).
ويطرح الكتاب أفكاراً مثيرةً للاهتمام برمزية ذكية، تحتاج إلى التقاطها قراءة دقيقة.
أن تخرج منك شخصية نقيضة يعني أن ترى انعكاساً مضطرباً ولا يشبهك بالضرورة، وهذا ما حدث مع "جوليادكين".. ويُرجع الكاتب هذا الاضطراب إلى الضغوط الاجتماعية اليومية وما يرافقها من أزمات بوصفها تراكماتٍ تتكدس داخلنا مع الوقت، بدءاً من الاضطهاد الذي يمارسه الآخرون علينا... إلى القسوة وعدم القبول والكره، كل هذا يؤدي به إلى مواجهة رجل آخر من نفسه، وهكذا إلى أن يُدفَعَ إلى مصحة عقلية بعد سلسلةِ مواجهات مع هذا الكائن الجديد والمتطفل بوصفها محاولةً لإثبات نفسه، هذا الشخص حضرَ معه كل الوقت، كان صورته الانعكاسية في الزجاج، وفي بعض الأحيان خرج من مخيلته تجسيداً لأوهامه العدوانية، وفي أحيان اُخرى، كان شخصاً عادياً فقط لكنه غير مُرحب به، وفي أحياناً كثيرة كان هو نفسه.
_ (أنا أحب الهدوء يا كريستيان، لا أُحب ضوضاء المجتمع حيث يكون عليك أن تُجيد مسح الأرض بحذائك، إنه المطلوب منك هناك إلى جانب تنميق الكلام، وعليك أيضاً أن تُجيد المجاملة بكلامٍ معسول، والحال يا كريستيان أني لم أتعلم كُل هذه الزخارف، لم أتعلمها لأني لا أملك الوقت الكافي..).
الرواية ذات مساحة أدبية واسعة إذ جاءت في ثلاثة عشر فصلاً، كل منها يحوي أحاديثَ نفسيةً مكثّفة، ولمَّا كانت الحوارات فردية، كان من المعقول أن يُعاد تدوير بعض الأفكار بطريقة ما، ليحاول الكاتب في سرده الوصول إلى الذات الإنسانية بحقيقتها، فلا يمكن لنا فهم الحياة من الخارج قبل أن نعرف ونتلمس ذواتنا من الداخل.
وتتميز هذه الرواية باستخدام دوستويفسكي لأسلوب الحوار الداخلي استخداماً كبيراً، إذ أتاحت الوصول إلى أعماق الشخصية على نحوٍ أسرع من دون أي تكلُّف حواري أو تقديمي لها، وتتميز أيضاً بلغتها الفلسفية المحكمة والعامة بحيث يمكن لأي قارئ أن يجد جزءاً منه داخلها، وتتصل الأحداث منذ بداية الرواية حتى نهايتها؛ وهذا ما أعطى تتابعاً لطيفاً بين القارئ والشخصية الرئيسة في العمل.
_ (كان يحسُّ في قرارة نفسه، أنه ليس سعيداً كل السعادة في تلك اللحظة وأن بداخله دودة، صحيح أنها دودة صغيرة ولكنه يحس أنها لا تزال تنخر قلبه على مهل وبلا هوادة).
معلومات الكتاب:
فيدور دوستويفسكي. المزدوج. ت: الجيلالي مويري. المركز الثقافي العربي. 2018م. ص 238.