مراجعة كتاب (الجين الأناني)؛ عندما تتجلَّى إرادة الطبيعة
كتاب >>>> الكتب العلمية
"يتشارك قرد الشامبانزي والإنسان بقرابة 99.5% من تاريخهما الجيني، ومع ذلك يعدُّ معظم المفكرين من البشر أن الشامبانزي ما هو إلا مسخ غريب، في حين يعدُّون أنفسهم صورةَ الإله".
هذه كانت كلمات دوكينز الأولى في مقدمة الإصدار الأول من كتابه "الجين الأناني"، وبهذه الكلمات يأخذنا الكاتب في رحلة مثيرة تبدأ من "الحساء الأولي" قبل أربعة مليارات سنة قائلًا: "في البَدء كانت البساطة"، مرورًا بكثير من الأمثلة المذهلة عن تكيفات الكائنات الحية عبر العصور، ويعرض فيها صورًا من ممالك الطبيعة تتنوع بأشكالها حتى يكاد العقل أن يتوقف من روعتها، ثم ينتهي بالتحدث عن فكرةٍ تُناظر فكرة الجينات في علم الأحياء؛ وهي فكرة الميمات في علم الاجتماع.
يبدأ الكاتب بتعريف الجين، وعلى الرغم من وضوح هذه الكلمة في أذهاننا لكونها مبدأ؛ لكننا لا نستطيع الإمساك بها بأيدينا أو بأدواتنا، فنحن نعلم أنَّ الجين يُحمل على الصبغيات، ولكن كم جينًا يحمل الصبغيُّ الواحد؟ أعشرة؟ أم مئة؟ أم ألف؟ هنا تظهر الصعوبة في دراسة الجينات والتعامل معها بوصفها "واحدة"، ولكنه يطرح تعريفًا يجعلها قابلة للتداول والدراسة، بل ويُعطيها طابعًا واعيًا ليسمح لنفسه بذلك أن يُطبِّق تعابيرًا كـ "أناني" و"قادر" و"متحكم" عليها.
يعدُّ الكاتبُ في كتابه هذا الجينَ محور التطور ومركزه، ويعرض العديد من الدلائل لينفي أنَّ المتعضية أو الجماعة هي مركز التطور؛ وبهذا يكون الجين هو المصدر الحقيقي لتصرفات الكائنات الحية. وتنعكس محاولاته -في الحفاظ على نفسه- على تصرفات الكائنات الحية التي تحمله؛ وبهذا يمكن تفسير الإيثار بين المتعضيات ذات القرابة بأنها محاولة من الجينات للحفاظ على نفسها أو على ما يُشابهها بأكبر قدر ممكن، ولكن الفكرة ليست بهذه البساطة؛ فالقرابة بين الأخين التوءم هي حالة تَطابق، في حين تكون بين الابن وأمه حالة نصف الجينات فقط، ولكنَّ الإيثار في الحالة الثانية أوضح منه في الأولى. وهنا يدخل دوكينز في تفسير أعمق يرتبط بمحاولةٍ من الجينات في الحصول على أفضل النتائج بإدخال عوامل أخرى غير نسبة الجينات المشتركة بين المتعضيات.
ولكن لم يقصد الكاتب أن يقول إن الجين يملك "إرادة" بالمعنى الذي نعرفه نحن؛ ولكنه يستخدم الاستعارة لوصفها وكأنها تملك تلك الإرادة. والقصد أنَّ الجينات التي تستمرُّ في النوع هي تلك التي تخدم ذاتها، ويحدث هذا التطورَ على مستوى الجين لا على مستوى المتعضية أو الجماعة. وهما مدرستان يرفضهما دوكينز تمامًا.
ومن هنا تبرز الفكرة الأساسية في كتاب دوكينز وفي المدرسة التي ينتمي إليها؛ وهي أنَّ المتعضية ما هي إلا وسيلة لحمل الجينات والحفاظ عليها، وإنَّ التكيُّف الذي تُبديه المتعضية للظروف والتغيرات ما هو إلا محاولة من الجينات للحفاظ على العربة التي تنقلها إلى الجيل القادم.
وهنا تبدأ المعضلة الأخلاقية التي يتصورها منتقدو الكتاب بالوضوح أكثر؛ إذ يمكن للعربة/المتعضية -بعد أن تكسب وعيًا وإدراكًا كاملين لوجودها- أن تتصرَّف بما يُناسبها لا ما يناسب الجين كأن يُمارس الإنسان الحدَّ من النسل؛ ما قد يبدو كأنه منع الجينات من الاستمرار. ولكن حقيقة يزيد هذا من فرصتها في البقاء؛ إذ يُساعد الحدُّ من النسل على الحفاظ على النوع بتركيز الوالدين طاقتهما في طفلين أو ثلاثة بدلًا من تشتيتها في أكثر من ذلك.
هذا هو أسلوب دوكينز حقيقة في طرح أفكاره والإقناع بها؛ فبعد ظنك في أنه يُخالف فكرته؛ يأخذ دورَ محامي الشيطان، ويعود ليدحض كلَّ تلك الحجج وليُقدِّم حججه الدامغة دليلًا على صحة أقواله.
وبعد استعراض العديد والعديد من الأدلة التي تدعم نظرية المدرسة التطورية التي ينتمي إليها دوكينز والتي ترى في الجين مركز التطور وتُصنفه على أنه جهة أنانية تسعى إلى الحفاظ على نفسها دون أية ضوابط؛ ينتقل إلى الحديث عن تجربةٍ على مستوى المتعضيات/الأفراد، ويتحدَّث فيها عن الإيثار والخير وحقيقة نفعهما من أجل استمرار النوع، وتتعقَّد التجربة بتعقُّد مُعطياتها، ليصل في النهاية إلى الخلاصة. فيُعلق دوكينز عليها قائلًا: "لنحاول أن نُعلِّم الكرم والإيثار أبناءنا لكوننا وُلدنا أنانيين. لنحاول فهم مآرب جيناتنا الأنانية، لأننا عندها قد نستطيع أن نُعاكس غايتهم. هذا أمر لم يحلم أي نوع من الكائنات الحية به".
وفي نهاية الكتاب؛ يسبك دوكينز تعبيرًا جديدًا يدعوه "الميم meme" بوصفه واحدة للتطور الثقافي، وينظر بأن الميم كالجين ينسخ نفسه بأنانية، ويستخدم عقولنا مركبات فيبدأ بالانتشار ليصل إلى غايته في الاستقرار، ويختم بقوله: إن ميم الإيمان الأعمى يؤمن استمراره باستخدام الميزة المبطنة البسيطة والتي هي تثبيط الأسئلة المنطقية".
يقول دوكينز عن كتابه إنه عندما كتبه كان يُفكّر في الجميع؛ بالعلماء متوخيًا الدقة العلمية، وبالدارسين متوخيًا المنهجية والمرجعية، وبالعموم متوخيًا البساطة والوضوح. فلا تقلق عزيزي القارئ؛ إذ مهما تكن أهدافك من قراءة هذا الكتاب ستستطيع الاستمتاع به بالقدر الذي ستُقبل فيه بنَهَم على محتواه.
معلومات الكتاب:
الكتاب: الجين الأناني.
الكاتب: ريتشارد دوكينز.
ترجمة: مركز البابطين للترجمة.
عدد الصفحات: 224 صفحة.
دار النشر: دار الساقي.