الإنتروبيا والحياة
الفيزياء والفلك >>>> فيزياء
وهناك عدة طرائق لنشر الطاقة أكثر من تركيزها، لذلك عندما تتحرك الجسيمات في النظام وتتفاعل، فإنها تميل إلى تبني تكوينات تنتشر فيها الطاقة، وفي نهاية المطاف يصل النظام إلى حالة من الإنتروبيا القصوى تُسمى "التوازن الديناميكي الحراري"؛ إذ تتوزع الطاقة على نحوٍ مُوحد، وعلى سبيل المثال، يصبح فنجان القهوة والغرفة التي تجلس فيها بذات درجة الحرارة، وطالما تُرِك الكأس والغرفة بمفردهما، فإن هذه العملية لا عودة فيها، ولا تَسخُن القهوة تلقائيَّاً مرة أخرى أبداً، لأن الاحتمالات تتراكم على نحوٍ كبير مقابل كثيرٍ من طاقة الغرفة التي تتركز عشوائيَّاً في ذراتها.
وبذات الطريقة، فإن القانون الثاني في الديناميكا الحرارية يتنبأ بحالة من التوازن، أو "الموت الحراري" الحتمي للكون. بعبارةٍ أُخرى إن إنتروبيا الكون تميل إلى الحدِّ الأقصى، ومع ذلك، يَعرض العالم نمطاً مثيراً للحياة يُولِّد باستمرار هياكل مُنظمة على نحوٍ مُثير للإعجاب، بدءاً من الكائنات الحية الدقيقة إلى الزهور وحتى البشر.
فكيف يُمكن لكائنٍ حي أن يأتي إلى الوجود ويبقى وينمو بدلاً من أن يتحلل؟ كيف يمكن أن تسبحَ ضد تيار الإنتروبيا الذي يحمل كل شيء إلى حالة خاملة من التوازن وفي النهاية يؤدي إلى الموت الحراري؟
لقد تناول شرودنغر هذه الأسئلة المثيرة للاهتمام في عام 1944 عندما نشرَ كتابه الشهير "ما هي الحياة؟"
فقال: "كيف يتجنب الكائن الحي الزوال؟ الجواب الواضح هو: بالأكل والشرب والتنفس، بالاستقلاب بوصفهِ مصطلحاً أكثرَ دقة؛ إذ يستخدمها للحفاظ على التنظيم الظاهر في بنية ووظائف خلاياه، بينما تدفع ضريبتها الديناميكية الحرارية عن طريق تسخين البيئة المحيطة" (3).
وأشار إلى أنَّ عملية الاستقلاب في حدِّ ذاتها لا تُفسر أي شيء: «إن أي ذرة من النيتروجين والأوكسجين والكبريت وما إلى ذلك جيدة مثل أي ذرة أخرى من نوعها، فما الذي يُمكن الحصول عليه من خلال تبادلها؟»
وبذلك يَكمُن الجواب في أن الفارق الوحيد بين الكائنات الحية و تكتلات ذرات الكربون في مكانٍ ما هو أن الكائنات الحية تميل لأن تلتقط الطاقة من بيئتها وتُبددها على شكل حرارة بشكلٍ أفضل من ذرات الكربون هذه (2).
وهكذا توصل شرودنغر إلى الفكرة الآتية: «يجب أن تُحافظ الكائنات الحية على حالة من التنظيم العالي وأن تتجنب زيادة الإنتروبيا. لذلك، يجب نقل إنتاج الإنتروبيا الداخلية إلى البيئة، إما عن طريق تبادل الإنتروبيا المرتبط بالحرارة أو عن طريق إنتاج منتجات ذات إنتروبيا أعلى من العناصر الغذائية» (3).
وأضافَ شرودنغر أيضاً : «إن الحياة تتميز بـ "شيفرة جينية" تُوجه التنظيم الخلوي والوراثة، وتُمكّن الكائنات الحية من تجاوز القانون الثاني للديناميكا الحرارية (4)».
لكن يجب أن نُدرك أنه لا يُمكننا قراءة ترتيب أعضاء جسمنا في الجينوم، فهي لا تُعدُّ دليلَ خطوة بخطوة. إن الشيفرة الوراثية لكي تَكتسب معنىً، يجب أن يكون لها سياق: مثل تاريخ الخلية والبيئة المُحيطة بها.
إنَّ تتبع كيفية ظهور نمط تفاعلات الجينات مع بعضها ابعض ومع بيئتها هو اللغز الرئيس لعلم الجينوم الحديث (4).
وأفكار شرودنغر هذه في كتابه الذي ألفه عام ١٩٤٤ ألهمت فرانسيس كريك وجيمس واتسون في عام 1953 لاكتشاف بنية ال DNA، وأنه مُكَون من شريط مُزدَوج، وقد كتبَ كريك إلى شرودنغر في ذلك العام ، "لقد تأثرَ كِلاهُما بِكتابك الصغير" (4).
ختاماً، تُعدُّ الحياة ونشأتها من أكثر الظواهر إدهاشاً وغموضاً في الكون، ولا يُوجد تفسيرٌ أو نظريةٌ مثبتة بعينها تُفسر نشأة الحياة، فكُلما حاولنا الغوصَ أكثر لنفهم عُمق هذا السر وجدنا أنفُسنا أننا لم نَبرح مكاننا على شاطئ المعرفة غير المتناهي.
المصادر:
2- Magazine NW. A New Physics Theory of Life [Internet]. Scientific American. Available from: هنا
3. von Stockar U, Liu JS . Does microbial life always feed on negative entropy? Thermodynamic analysis of microbial growth. Biochimica et Biophysica Acta (BBA) - Bioenergetics. 1999 Aug [cited 2020 Feb 25];1412(3):191–211. Available from: هنا
4- Ball P. Schrödinger’s cat among biology’s pigeons: 75 years of What Is Life? Nature [Internet]. 2018 Aug 29 [cited 2020 Feb 25];560:548–50. Available from: هنا