(من الهواية إلى العلم..) كيف تفكر تفكيرَ أنثروبولوجي؟ (الجزء الأول)
كتاب >>>> الكتب الأدبية والفكرية
ينطلق أنجيلكه من المفهوم الأهم في الأنثروبولوجيا في محاولةٍ لإيجاد أبسط التعاريف وأكثرها دقة، فيستند في البداية إلى الحكاية شارحاً بقصةٍ بسيطةِ المعالمِ ما تعنيه "الثقافة" للأنثروبولوجيا، ثم يمضي في سبيل تعميق بحثه أكثر إلى وجهات النظر المختلفة وصولاً إلى المادي وغير المادي انطلاقاً من هذا المفهوم الذي ابتدأت معه الأنثروبولوجيا تبحث ضمن الثقافة المادية؛ أي التفتيش داخل ما يتركه البشر من آثار.
ويمضي عبر الزمن ليتابع بعدها كاتبنا سيرَه من خلال الربط بين الثقافة والأحكام ونظرية التطور الاجتماعي إلى أن يصلَ محطة السؤال الذي يشكل معضلةً قديمة؛ هل ما يشكلنا -نحنُ الجنس البشري- هو جيناتنا أم البيئة التي جئنا منها؟ ومن هنا سينشب صراع مُحتدِم بشأنِ ضرورة وجود مصطلح الثقافة بين مُوالٍ ومعارِض، ليضيء أنجيلكه على حدة الخلاف فيها بوصفها مصطلحاً في أروقة الأنثروبولوجيا.
وعند هذه النقطة حيث تحدم هذه الأزمة، نتابع نحو مفهومٍ جديدٍ هو "الحضارة" التي تشكل بارتباطها الوثيق بالثقافة ولدى عديدٍ من علماء الأنثروبولوجيا جدلاً واسعاً أيضاً يزداد اتساعه اليوم، فالحضارة بمفهومها السطحي هي عيش الإنسان متحضراً، وفي حين تتردد هذه الكلمة على ألسنة الناس كثيراً، يرى كاتبنا أن الحضارة كلمة خطيرة، ولإثبات ذلك كان عليه -وفي كتابه هذا- العودة إلى مكانة الحضارة داخل سير التطور الاجتماعي.
فيبدأ من استقصاء رواد الأنثروبولوجيا -على غرار إدوارد بورينت تايلور وهنري مورغان- في التطور الاجتماعي بوصفهم إياه تطوراً بيولوجياً بحتاً مستفيدين فيما بعد من نظرية داروين في التطور، رابطين إياها بعملية سيرنا الاجتماعي حتى يصلوا إلى جعل الحضارة مثل صيغة مقارنة بين الشعوب المتوحشة الدنيا والمتحضرة العليا على سُلَّم الكمال التطوري، مرهونةً بالزمنية، فمن كان سابقاً يقطن بين صفحات التاريخ هم الأطفال الذين حينما كبروا قد أصبحوا نحن، ليتدخل في هذا المفهوم الكولونالية (التاريخ الاستعماري) بأثره الواضح في معنى الحضارة وسيرها.
فما دمنا نسيرُ وفق خطٍ زمني وهناك أدوار تداخلية بين الاستعمار ومضيفه، لا بدَّ من أن يُشاع وجود بشرٍ متأخرين لم يصلوا بعد (لم يكبروا)، وهم على المقياس الذي أسلفنا ذكره غير متحضرين، ونرى هذا شائعاً على خط اللغة بين المدن والريف.
ويستشهد كاتبنا بعديدٍ من الباحثين لتعزيز مفهوم صراع التطور الاجتماعي والمبني في جوهره على الحضارة قبلها وما بعد، فنرى كيف أن الصراع الذي نشب بعد الحرب الباردة وعبر قراءة الوقائع هو صراعٌ حضاري بين المتحضرين وغير المتحضرين (والذي بان علناً في الصراع الغربي/ الإسلامي) من وجهة نظر الغرب، لنكملَ تعمُّقنا في جذور المفهوم الحضاري الراسخ ضمن الوعي الجمعي إلى نقطة التنمية التي بُعثت حديثاً في الأوساط المجتمعية، فيلوم كاتبنا التوصيف الذي تبنُّوه لهذه النقطة على أنها رحلة عبر الزمن فيها تتدخل المنظمات لتنقل شعباً من العصور الغابرة إلى عصرنا الآن دون الأخذ بعين النظر ثقافة هذه الشعوب وظروفها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ولكي يفعل ما فعله كاتبنا بمفهوم الثقافة -إذ لا يعزله عنا- كان قد طلب المساعدة من عالم الآثار ديفيد وينغزو الذي سعى إلى إبعاد الدراسات الحضارية عمَّا يدهش (مثل الأهرامات) وتقريبها من الممارسات الدنيوية واليومية (مثل الطهي وزينة الجسم) مستشهداً ببلاد الرافدين ومصر، والتبادل المستمر بينهما على مدار أربعة آلاف عام، وإن كان سينسف ما يحيط بالوصف الخاطئ للحضارة والعالق في الأذهان، فقد كان عليه أن ينسف مفهوم التطور الاجتماعي بكلمة مغايرة ليرسو على مصطلح "التغيير".
ولكي نغوصَ في حديثنا أكثر الآن، سنأخذ بالحسبان كلَّ ما أسلفناه ونتجه عبر الحضارة والثقافة إلى مفهوم "القيم" الذي من وجهة نظر الحضارة هو مفهوم قابلٌ للتقييم مثل الحرية بالنسبة "للمجتمع الأمريكي".
أما عند اقترانها بالثقافة، نجد أن علماء الأنثروبولوجيا قد استخدموا القيم لتصنيف أنماط الثقافات التي يدرسونها، وقد نميل إلى الاعتقاد بأن القيم ثابتة، لكن الأنثروبولوجيا تقودنا لنتعلم عنها الشيء الجديد عندما تقرنها بالأسئلة.
وعليه؛ يرتكز ماثيو أنجيلكه في تعمقه داخل هذا المفهوم على مرتكزين؛ أولهما قيم الشرف وغسل العار، وثانيهما عدُّهما مفهوماً أنثروبولوجياً يستحق الدراسة.
وانطلاقاً من الشرف وغسل العار، سنتوقف عند حوض المتوسط بما فيه من دول أوربية وآسيوية، وما لديهم من معتقدات تتناول في صددها الشرف بوصفه قيمةً متوسطية، وقد ناقش الورشات التي أقامها علماء الأنثروبولوجيا؛ خاصة تلك التي أُقيمت في النمسا وجمعت مَن درسوا هذه المنطقة، فأفضت بكتابٍ مفاده قيم المجتمع المتوسطي، وقد خصَّوا في كل فصل منه دولةً مثل (أسبانيا، مصر، قبرص...) ليوضح الشرف فيها، فيعزو مكانة الشرف إلى تناسب عكسي مع القوة التي تمتلكها السلطة، فكلما زادت قوة الدولة وامتلكت نموذجاً للعدالة، صار الشرف قيمةً أقل أهمية.
ويوضح ارتباط الشرف -تاريخياً وعبر الدراسة الأنثروبولوجية بوصفه قيمةً- بالجسد، ويتجه أنجيلكه في نقاشه لهذا الكتاب إلى تعميم القيمة من خلال نقاش إحداها (الشرف)، ومنه لا نفهم ثقافة البحر المتوسط فحسب، بل الثقافات الأخرى جميعها.
ويرى أن القيمة ثابتة ومطواعة في الوقت نفسه، ولنوضح ذلك، يوضح أنجيلكه مقصده في دراسة أنثروبولوجية لحياة الرعي التي فيها تبقى الأغنام مشاعاً للسرقة ما لم يُوضع في هذه البيئة ميثاقاً أخلاقياً يحطُّ منها على أنها فضيلة محولاً إياها إلى رذيلة.
وهذا ما يقودنا إلى محاولة معرفة مزيدٍ عن هذا المفهوم، فيعرج الكاتب بمساعدة لويس دومون إلى الهند ومصطلح الكاست الذي يُطلق على المجموعات المرتبطة ببعضها على أساس المهن التقليدية، وغير المختلطَة كالنجارين والدباغين وبتسلسل هرميٍ إلى الكهنة والمعلمين، فمن هذا التسلسل تطفو فكرة القيمة بصورة احترام وتقدير لدى هذه المجموعات، والتي يقارنها بالقيمة الفردانية التي غزت العالم الغربي فتجسدت بقيمة الحرية، وهذا ما لا يمكن الوصول إليه بمحاولة تجزئتهم إلى أفراد وفهمهم واحداً واحداً، بل من خلال فهم هذا التناغم الذي تشكله هذه المجموعات.
وقد نحا بنا الكاتب عبر محنة أخلاقية للوصول إلى نظرة أنثروبولوجية لمفهوم القيم، والتي -على حدِّ وصفه- تؤكد أهمية البشر بوصفهم حيواناتٍ تصنع المعنى، وتؤكد أن القيم إنما هي مقياس لجودة الحياة، ومن فهمنا للقيم نستطيع فهم البنى والسياقات التي تشكل حياة الشعوب.
المصادر:
ماثيو أنجيلكه. كيف تفكر كأنثروبولوجي. ت: عومرية سلطانة. الشبكة العربية للأبحاث والنشر ؛ الطبعة الأولى 202. ص 306.