إدوارد غاليانو
كتاب >>>> مفكرون وكتّاب
إدوارد غاليانو؛ إنه كاتب أرغوياني، وهو الضمير الحي الذي يُمثِّل جميع المغلوبين والمنسيين في هذه الحياة، ولد في مدينة مونتفيديو في 3 أيلول (سبتمبر) 1946، وعاش حياة صعبة وكسب حياته عاملًا في مصنع وصبَّاغًا ومراسلًا وعاملَ آلة كاتبة، إلى أن عمل رئيسَ تحرير أسبوعي لـ "ماركا" ومديرَ يومية "إيبوكا"، وفي بونيوس أريس بالأرجنتين حيث نُفي، أسَّس مجلة "كرسيس" وأدارها قبل أن يطلب اللجوء إلى إسبانيا عام 1973 إثرَ الحكم العسكري الدكتاتوري في الأرجنتين، ثم عاد إلى الأوروغواي عام 1985.
عُرف إدوارد بأنه يرى الكون بمنظاره الحقيقي، كان كإله يعرف ويرى كل ما يحدث في هذا الكون؛ لذلك قدَّم لنا في كتاباته صورةَ التاريخ الحقيقية التي لم نقرأها من قبل. فقد صرح غاليانو بأنه كان طالب تاريخ بائس بقوله: "كان حضور دروس التاريخ يُشبه الذهاب إلى معرض التماثيل الشمعية أو إلى إقليم الموت، كان الماضي ميتًا أجوفًا وأخرسًا، فقد علمونا الماضي بطريقة جعلتنا نستكين للحاضر بضمائر جافة لا لنصنع التاريخ الذي صُنع سابقًا؛ بل لكي نقبله. توقف التاريخ المسكين عن التنفس وقد كان مخونًا في النصوص الأكاديمية وكُذب عليه في المدارس واُُغرق بالتواريخ، وقد سجنوه في المتاحف ودفنوه تحت أكاليل الزهور ووراء تماثيل برونزية ورخام تذكاري"؛ لذا استبدله غاليانو ليُقدِّم لنا تاريخ البشر والمستعبَدين والمقهورين وتاريخ الذاكرة المخطوفة إلى العالم.
قال غاليانو في حواره مع سكوت شيرمان من صحيفة أتلانتيك أون لاين مازحًا: "أنا أكتب عندما أشعر أن يدي تحكُّني فقط؛ أي عندما أشعر بحاجة جامحة إلى الكتابة، وتعلمت هذا من موسيقيٍّ كوبيٍّ عظيم كان يتلاعب بالطبول في فرقة الجاز مثلما يفعل إله، وكان سره الأكبر هو أنه يعزف عندما كانت يده تحكُّه هو الآخر أيضًا".
وكتب قائلًا: "أنا عارٌ، سيد اللا شيء وسيد اللا أحد، لست حتى سيد معتقداتي، أنا وجهي في الريح وضدَّ الريح، وأنا الريح التي تهبُّ على وجهي"؛ من عصفة الريح في كتاب المعانقات.
جاوزت كتب غاليانو المألوفَ في محتواها وأسلوبها؛ فقد كان ينتقل من الماضي إلى الحاضر ويخلق ارتباطًا بينهما؛ إذ لم يكن هناك من قدرة على تصنيف كتبه، فقد جمع كلَّ الأجناس وعبَّر عن ذلك في حديثه مع مجلة بريد اليونيسكو قائلًا: "أحاول أن أبدع مؤلفًا يذهب أبعد من التصنيفات التي تميز بين القصة والبحث والرواية والشعر والحكاية واليوميات". ولعل أهم مؤلفاته هي:
ثلاثية ذاكرة النار: والتي تُصور التاريخ السري المسكوت عنه في الأمريكيَّتين؛ وهي قصص حقيقية لأناس عُرفوا وآخرين منسيين، وقد تضمَّنت رمزية عميقة في سردها.
أما كتابه الثاني؛ الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية 1971: كان عملًا مرجعيًّا لكل من أراد فَهم تاريخ القارة، وقد أكَّد فيه أن التخلُّف هو نتيجة منطقية لخمسة وعشرين عامًا من الأمبريالية الأمريكية.
ولا ننسى كتابه الذي أحبَّه عُشاق كرة القدم وهو؛ كرة القدم بين الشمس والظل: وقد كان خلاصة الحيرة الطويلة عن تاريخ كرة القدم وخصوصيتها، وقد عبر فيه عن حبِّه الخاص لهذه الرياضة بقوله: "حاولت منذ كنت صغيرًا أن أكون لاعب كرة قدم، ولا أزال اللاعب رقم واحد، وأفضل الأفضل، ولكن؛ في أثناء أحلامي فقط؛ إذ أجد بمجرد استيقاظي أنَّ لديَّ ساقين مُتخشِّبتين وأنه لا خيار لي سوى محاولة أن أكون كاتبًا".
وقد صور الكتاب الرياضة من جوانب مختلفة وعرض ارتباطها بالسلطات والجيوش؛ تلك التي كانت تُعدُّ الخسارةُ فيها خسارةً حربية، وقد أشار إلى ذلك في فاجعة الفريق الأوكراني التي لا مثيل لها في الرياضة؛ إذ أعدم الجيش الألماني النازي كاملَ الفريق الأوكراني لأن الأخير قد تفوَّق على الفريق النازي بعد أن حذَّره النازيون بقولهم: "لو فزتم ستموتون". وعلى الرغم من أهمية الكتاب التاريخية؛ لكنه لم يعجب النقاد كثيرًا وقد رؤوا أنه أنزل من قيمة غاليانو الأدبية.
ثم إنَّ غاليانو قد أصدر العديد من الكتب الأخرى التي نالت العديد من الجوائز العالمية؛ وهي: ذاكرة الموتى، والوجوه والأقنعة، وعصر الريح، وأيام وليالي الحب والحرب 1987، وأمريكا الاكتشاف الذي لم يقع بعد 1992، وكتاب المعانقات 1995، وأفواه الزمن 2007، وكتاب مرايا 2011 (يُعبِّر عنوانٌ آخر عن مضمون هذا الكتاب؛ وهو "ما يُشبه تاريخًا للعالم").
وكان كتابه الأخير "أبناء الأيام" النهاية التي عُدَّت امتدادًا لكل ما كتبه غاليانو سابقًا؛ فقد مثَّل إدانةً صارخةً للعصر الحاضر الذي نعيشه؛ إذ جاء فيه بشهاداتٍ من أفواه أبناء المايا في غواتيمالا عندما يقول: "في كل يوم تتولد القصص والحكايات المتواترة، ذلك أن الكائن البشري مصنوع من الذرات ولكنه صنع كذلك من القصص والحكايات".
إذن؛ فإن غاليانو "صديق المنسيين"؛ فقد حاول دائمًا أن "ينظر إلى العالم عن طريق البرك الصغيرة في الشوارع"، وهو "المهووس بالتذكُّر"؛ فالأمر الذي أخافه هو أن يُصبح أعمى كالآخرين لأن "المسار المُحتمل في أن نصبح عميان ليس هو فقدان البصر؛ بل الذاكرة".
حاول غاليانو أن يكتب "وجهة نظر الذين لم يظهروا في الصورة "؛ إذ قال في خطابه في أثناء تسليمه جائزة مركز هيفن للعلوم الاجتماعية في ويسكونس الولايات المتحدة: "حاولت -وأحاول- أن أتقيَّأ كل ذلك الكذب الذي نتجرَّعه كل يوم ونحن مُجبرون، وحاولت -وأحاول- أن أكون عاصيًا للأوامر التي يُصدرها سادةُ العالم .. لربما نستطيع أن نُغيِّر الجملة الشهيرة التي كتبها صديقي ويليام شكسبير: الحياة حكاية رواها غبي، مملوءة صخبًا وعنفًا وتُبين كل شيء".
وفي نهاية هذا المقال؛ لا يسعنا إلأ أن نقف قليلًا لنعيد النظر في تاريخ البشر والعالم..
"عاجلًا أم آجلًا؛ سيقرُّ النظام الإلهي مراتبه وجغرافيته، ويضع كل شيء في موضعه وكل واحد في مكانه؛ ولكن الجنون يعود -عاجلًا وليس آجلًا- إلى الظهور، عندئذٍ تتحسَّر الآلهة؛ إذ يصعب حكم العالم". من قصة الحشري في كتاب مرايا.
المصادر:
* كتاب المعانقات، إدوارد غاليانو.
* كرة القدم بين الشمس والظل، إدواردغاليانو.
* مرايا، إدوارد غاليانو.
* خطاب غاليانو في مركز هيفن، الولايات المتحدة 2013.
* حوار غاليانو في صحيفة بويليكو.
* حوار غاليانو مع سكوت شيرمان، نيويورك 2004.
* حوار غاليانو، جريدة المدى 2014.