أساطير الجنة والعالم السفلي السومرية
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> الفلسفة
منذ أن زالت المشاعة الابتدائية، وفقد الفرد سلطته على وسائل إنتاجه لصالح الآخرين، تحول العمل من متعة وتحقيق للذات، إلى عبودية واغتراب، ومن طقس جماعي مرضٍ، إلى وحدة قاسية بلا هدف أو غاية إلا لقمة عيش يومية تدفع للاستمرار يوماً آخر. ومع نضوج المجتمعات الأبوية التسلطية وإحكام حلقاتها على الأفراد، وصل الإنسان إلى حالة إحباط كانت نتيجة حياة تبدو بلا معنى ولا تسعى إلى غاية، سوى موت يضع حداً لفصل مؤلم. ولكن المجتمع التسلطي استطاع أن يحرم الفرد من كل شيء إلا من الرغبة في التغيير كانت بادية أو كامنة أو حتى حلماً.
تجلت رغبة التغيير في ثورات البشر عبر التاريخ في سبيل حياة أفضل وحرية أكثر. وتجلى الحلم، بديلاً عن الفعل، في أدبيات البشر التي تصف عالماً قادماً، هو حرية كاملة ومساواة مطلقة وراحة من لعنة العمل المفروض على الإنسان، عالم لا مرض فيه ولا عناء ولا شيخوخة ولا موت، فكانت أساطير الجنة لدى الشعوب، تعبيراً سلبياً عن رغبة في التغيير لم تخرج إلى حيز الفعل، أو فعل تم إحباطه فصار حلماً ينتظر.
أسطورة العصر الذهبي :
عبر السومريون عن ذلك الحلم في نص جميل يصف العصر الذهبي للإنسان قبل هبوطه إلى دنيا العبودية والعمل المغترب، حيث كان سيداً لنفسه وسيد الطبيعة :
"في تلك الأيام، لم يكن هناك حية ولا عقرب ولا ضبع
لم يكن هناك أسد ولا كلب شرس ولا ذئب
لم يكن هناك خوف ولا رعب
لم يكن للإنسان من منافس
في تلك الايام كانت (شوبور) أرض المشرق، أرض الوفرة وشرائع العدل
وسومر أرض الجنوب، ذات اللسان الواحد، أرض الشرائع الملكية
و(أورى) أرض الشمال، الأرض التي يجد فيها كل حاجته
و(مارتو) أرض الغرب، أرض الدعة والأمن
وكان العالم أجمع يعيش في انسجام تام
وبلسان واحد يسبح الكل بحمد انليل.".
أسطورة دلمون :
أما الجنة، بمفهومها الذي تجلى فيما بعد في التوراة فتحدثنا عنها أسطورة أخرى هي أسطورة دلمون :
"أرض دلمون مكان طاهر، أرض دلمون مكان نظيف
أرض دلمون مكان نظيف، أرض دلمون مكان مضيء
في أرض دلمون لا تنعق الغربان
ولا تصرخ الشوحة صراخها المعروف
حيث الأسد لا يفترس أحداً
ولا الذئب ينقض على الحمل
ولا الكلب المتوحش على الجدي
ولا الخنزير البري يلتهم الزرع
ولا الطير في الأعالي لا [..] صغارها
والحمامة لا [..] رأسها
حيث لا أحد يعرف رمد العين
ولا أحد يعرف آلام الرأس
حيث لا يشتكي الرجل من الشيخوخة
ولا تشتكي المرأة من العجز
حيث لا وجود لمنشد ينوح
ولا لجوال يعول".
في هذا الفردوس، كان يعيش أنكي إله الماء العظيم، وزوجته ننخرساج الأرض – الأم، كما عاش في الفردوس التوراتي آدم وحواء. وقد أخرج انكي ماءه وسقى تربة زوجته الأرض، فحول دلمون إلى جنة إلهية خضراء. ومن اتحاد الماء (انكي) بالتربة (ننخرساج) يمتلئ الفردوس بالحقول والأشجار والثمار، كما تظهر مجموعة من آلهة النبات يقوم انكي بإغوائهن تاركاً زوجته.
الجحيم السومري و العالم الأسفل :
إلى عالم الأموات السومري (الجحيم السومري) أو العالم السفلي (كور أو اريشكيجال) تمضي جميع أرواح الاموات دون تمييز، فلا فرق بين الصالح والطالح وبين غني أو فقير أو بين ملك ورعيته، إلّا ان كل إنسان يحتفظ بنفس المكانة التي كانت له في الحياة الأولى، ففي أحد الألواح السومرية ورد بأنّ أحد الملوك بعد موته قام بتقديم القرابين والهدايا الى آلهة العالم السفلي، وكيف أنّه اقتيد الى مكان تمّت تهيئته خصيصا له. هناك حيث البقاء الأبدي الذي لا عودة منه ولا يوجد فيه لا بعث ولا حساب.
يتم الدخول إلى العالم السفلي من فتحات في الأرض كتلك التي تشرق منها الشمس والفتحة التي تغرب منها أو من القبر. بعد نزول روح الميّت الى أرض اللاعودة يصادفه نهر العالم الأسفل وسمّاه السومريون بـ(هابور) وهناك يحييه ملّاح النهر (هامو طابال) ذو الأربعة رؤوس الشبيهة برأس الطير وينقله في قاربه إلى الطرف الآخر حيث بوابات مدينة الموتى.
عالم الموتى حسب الأساطير السومرية عالم حصين خلف سبعة جدران عالية وسبع بوابات حصينة عليها حراس شداد غلاظ، وعندما يقترب القادم من البوابة الأولى، يعلن البواب اسمه ليسمعه اريشكيجال (إله العالم السفلي)، ثم يقاد عبر البوابات السبع، وعند كل بوابة يتخلى عن شيء من متاعه وملبسه وزينته وفق القوانين الموضوعة لذلك العالم.
ثمّ يمثل عارياً أمام اريشكيجال وبطانتها السبع، وهم كبار آلهة العالم الأسفل لتقرير مصيره ومكانه ووضعه العام في عالم الأموات.
إلّا أنّ هذه الأسطورة ومتوازياتها البابلية والكنعانية لم تكن أساطير مكرّسة أساسا للعالم الأسفل، بل لشرح الفكرة الاساسية في ديانات الخصب والمتعلقة بموت الإله وبعثه من جديد، فموت الإله كان يرمز الى موسم الصيف (موسم الجفاف)، وبعث الإله كان يرمز إلى موسم الربيع (موسم الخصوبة)، فبعد انتقال الانسان من مرحلة الرعي إلى مرحلة الزراعة اقترنت معظم أساطيره بهمومه المتعلقة بالزراعة وخصوبة التربة وتبدّل المواسم من شتاء وربيع وصيف وخريف.
في الاسطورة السومرية (جلجامش وانكيدو والعالم الاسفل) نجد وصفا مفصّلا لعالم الموتى.
في هذه الأسطورة ينزل انكيدو صديق وخادم جلجامش إلى عالم الموتى لجلب (الباكو والماكو) وهما آلتان موسيقيتان مهداتان الى جلجامش من الإلهة إنانا اللتان سقطتا منها في كوّة الى العالم الأسفل.
نتعرف في هذه الأسطورة على أحوال الموتى في العالم السفلي وللأسطورة أهداف تتعلق بإقرار عدد من الممارسات الدينية والاجتماعية. ففيها حض على الإكثار من الإنجاب لأن الفرد يعامل في العالم السفلي وفق عدد الأولاد الذين أنجبهم في الحياة.
الجزء التالي المنقول من نص الأسطورة يعطينا فكرة عن أحوال الأموات وهي محاورة بين جلجامش وروح انكيدو العائد من العالم السفلي:
"هل رأيت الذي أنجب ولدا واحدا؟ نعم لقد رأيت أنّه ساجد عند الجدار يبكي بحرقة.
هل رأيت الذي أنجب سبعة أولاد؟ نعم لقد رأيت أنّه مقرّب من الآلهة.
هل رأيت الذي قُتِل في ساحة المعركة؟ نعم لقد رأيت أنّ أباه وأمه يمسكان جسده وزوجه تبكي عند رأسه.
هل رأيت الميت الذي تُرِكت جثته في العراء؟ نعم لقد رأيت. إنّ روحه لا تجد راحة في العالم السفلي.
هل رأيت الميت الذي لا تجد روحه من يعتني بها؟ (المقصود هنا ما يقدّمه الأحياء من أضحيات وقرابين لأرواح موتاهم). لقد رأيت، انّه يأكل الأقذار وما يُرمى في الشوارع من فتات."
حسب العقائد السومرية كان لزاما على أهل الميّت دفنه وفق الطقوس المتّبعة وتزويده بما يلزم ريثما يصل للعالم الأسفل. ومن ثمّ الاستمرار في تقديم الطعام والشراب والكساء له بعد دفنه عن طريق التقدمات المختلفة، وتقديم القرابين لآلهة العالم الاسفل لتكون رفيقة به. وهذه الطقوس الجنائزية والأضاحي هي التي تعين الميّت أكثر من أي شيء آخر.
ولكن ما فائدة العمل الصالح والحالة هذه، إذا كان الجميع يهبطون إلى العالم السفلي دون استثناء، ولا يجازى الصالحون بالجنّة، فيعاملون على قدم المساواة بشكل عام مع بعض الاختلافات التي تفرضها المكانة الاجتماعية السابقة للمتوفي؟
في الواقع إنّ العمل الصالح من شأنه أن يُفيد صاحبه في هذه الحياة. فخشية الآلهة وعبادتها وإقامة المعابد لها واتّباع أوامرها، كلّها أمور من شأنها إطالة حياة صاحبها والمد في العمر (وخشية الانوناكي تطيل أيامك على هذه الارض).
ولعل معرفة بعض عادات الدفن لدى سكان المنطقة القدماء (أرض الرافدين) تعطينا فكرة واضحة عن طبيعة تصوّرهم للعالم الآخر وطبيعة الاستمرار فيه، ففي لوح من أيام الملك السومري (اوروكاجينا) ملك لكش يتحدث فيها عن إصلاحاته نقرأ:
"عندما كان يوضع الميّت في قبره، توضع معه سبع جرار من الجعّة، وأربعمائة رغيف من الخبز، ووزنتان من الحنطة، وعباءة ووسادة"، وقد تطابقت مكتشفات المقابر مع هذا النص إلى حد بعيد.
المصادر :
مغامرة العقل الأولى، فراس السواح.
آساطير ألأولين - عقائد ما بعد الموت، كامل علي.
مصدر الصورة:
هنا