جبران خليل جبران: ليس من يكتب بالحبر كمن يكتب بدم القلب
كتاب >>>> مفكرون وكتّاب
بهذه الكلمات ودَّع جبران خليل جبران هذه الفانية، تاركًا وراءه إرثًا رائعًا كالمدى اللامُتناهي في خياله، لم يرثِه العرب وحسب؛ بل كان للعالم أجمع نصيبٌ من مغنى جبران والإله المُنساب من بواكير قلمه. لم تكن أعمال جبران تعرف القيود يومًا، لقد نطق حرًّا وكتب جهرًا؛ إذ لم يدع جبران في أثناء فسحةَ الثمانية والأربعين عامًا التي عاشها كبيرةً أو صغيرةً إلا وكان يسبر الأغوار في سحر الوصف وسرده الحياة، فكانت أعماله كلها تتحدَّث عن تفاصيل حياته وفكره وتطلُّعاته، وعلينا نحن أن نقرأ جبران في جميع مؤلفاته واحدًا لا يتجزأ حتى تكتمل الكلمة التي أرادها.
بدأ الفيلسوف والشاعر والأديب والفنان اللبناني، شاعر المهجر ورئيس الرابطة القلمية حياتَه في بلدة بشرِّي شمال لبنان عام 1883، وتوفي في نيويورك عام 1931 بداء السلّ. عاش جبران طفولته في كنف بلدته اللبنانية حتى هاجر إلى بوسطن 1894 مع أهله والتحق بمدرسة الفنون، وعاد في شبابه ليدرس في مدرسة الحكمة البيروتية عام 1896-1901. أسَّس مجلةً أدبيةً مع زميل دراسة وانتُخب شاعرًا للكلية، ثم عاد إلى أمريكا بعد أن اغترف من أرز لبنان مؤونة العمر، وظلَّ ينثر في الأرجاء طيوبَ الحياة ومفاتنها.
إنَّ ما يُميِّز مؤلفات جبران هو نمط الكتابة وسلاسَة التعبير والكنايات التي تجعل المستحيل ممكنًا إضافة إلى الذوق الرفيع الذي لا بُدَّ من أن تشعر بجماله وجلاله.
أول مؤلفات جبران مقال في "الموسيقا" أصدره سنة 1905 في نيويورك، وآخر الأعمال كتابه "التائه" باللغة الإنكليزية الذي نُشر بعد وفاته، فما الذي يمكن لعبقريٍّ مثل جبران أن يصف به الموسيقا؟ أقتبس: "هي مجموع أصوات مُحزنة تسمعها فتستوقفك وتملأ أضلعَك لوعةً وتُمثِّل لك الشقاء كالأشباح.. هي تأليف أنغام مُفرحة، تَعيها فتأخذ بمجامع قلبك فيرقص بين أضلعك فرحًا وتِيهًا.. هي جسمٌ من الحُشاشة، له روح من النفس وعقل من القلب".
يخرج جبران بعد عام ونيِّف بكُتيِّب آخر سمَّاه (عرائس المروج) وضمَّنه ثلاث قصص (رماد الأجيال والنار الخالدة، ومرتا البانية، ويوحنا المجنون)؛ يروي لنا جبران في القصة الأولى حكايةَ عاشقين عاشا سنة 116 قبل الميلاد، وكان أحدهما كاهنًا في هياكل بعلبك، وما لبث القدر أن اختطف معشوقته وتركه ضائعًا هائمًا على وجه الدنيا "في هدوء ذلك الليل ارتجفت أجفان الراقدِين وجزعت نساء الحيِّ وذعرت أرواح الأطفال إذ تبطَّنت ملابس الدُّجى بنواح مُوجع وبكاء مرّ وعويل أليم مُتصاعد من جوانب قصر كاهن عشتروت".
ومن وجهة نظر ميخائيل نعيمة؛ فقد كانت تُسيطر طبيعتان متفوقتان على جبران وهما طبيعة الفنان الوجداني المُرهف الحسِّ والشعور، وطبيعة المرشد والمصلح والواعظ، وقد جعلت هاتان الطبيعتان لفلسفة جبران في مؤلفاته اتجاهين؛ الأولى لامتطاء سرج الخيال وإطلاق العنان في حَبك الأحداث والاستمتاع بالحياة، والثانية ثائرة على خشونة الواقع ونَسَق الحياة المُكبَّل بالشرائع والتقاليد؛ فمثلًا: صور لنا جبران في قصة (مرتا البانية) فتاةً قرويةً فقيرةً طاهرةً يغويها رجل، فتحمل منه وتلد ثم ينبذها وطفلَها لتحتضنها أعشاش الدعارة مُرغمةً بسبب الحاجة، فيكتب جبران بلسان مرتا: "نعم؛ أنا مظلومة، أنا شهيدة الحيوان المُختبئ في الإنسان، أنا زهرة مسحوقة تحت الأقدام.. أيها العدل الخفيّ الكامن وراء هذه الصور المخيفة، أنت.. أنت السامع عويل نفسي المودّعة ونداء قلبي المتهامل، منك وحدك أطلب وإليك أتضرَّع، فارحمني وارعَ بيُمناك ولدي، وتسلّم بيسراك روحي".
تدور معظم مؤلفات جبران في فلك أبناء الفطرة وغزل مُعاناتهم بالكلمات؛ إذ إنَّ أشدَّ أعداء جبران هم الذين يظلمون الناس ويسرقون منهم خيوط الشمس. تمرَّد جبران وامتزج في مصاعب أبناء الفطرة؛ فكتب المعاناة نثرًا مُوجعًا وكتب الحكمة واعظًا مُرشدًا، وهذا ما يتجلَّى في كتابه (الأرواح المُتمرِّدة) الذي افتتحه بحكاية السيدة وردة التي تُصوِّر امرأةً طيبةً لا تفقه من الزواج معناه، فشاء أهلها أن تكون زوجًا لرجل غنيٍّ يفوقها سنًّا بكثير. وتحدَّث جبران في حكاية (صراخ القبور) عن حاكم أمير أمر بقتل ثلاثة أشخاص من غير سؤال ولا شهادة شاهد. ويعود جبران في (مضجع العروس) إلى حكاية الزواج بالإكراه وظلم الحُكَّام والرُّهبان، وأقتبس: «وأنت أيها الرجل الغبي الذي استخدم الحيلة والمال والخباثة ليُصيِّرَني له زوجة.. أنت رمز هذه الأمة التعسة التي تبحث عن النور في الظلمة وتترقَّب خروج الماء من الصخرة وظهور الورد من القطرب».
وكتب في حكاية (خليل الكافر) يُنشد الحرية: "من منبع النيل إلى مصبِّ الفرات.. من أطراف الجزيرة إلى جبهة لبنان.. ومن شاطئ الخليج إلى أذيال الصحراء؛ ترتفع نحوكِ الأعين مغمورةً بذوبان الأفئدة، فالتفتي أيتها الحرية وانظرينا.. اسمعينا أيتها الحرية، ارحمينا يا ابنة أثينا، أنقذينا يا أخت رومة، خلِّصينا يا رفيقة موسى، أسعفينا يا حبيبة أشعيا، علِّمينا يا عروسة يوحنا، قوِّي قلوبنا لنحيا أو شدِّدي سواعد أعدائنا علينا فنفنى وننقرض ونرتاح".
قال: "لكم لبنانكم ولي لبناني"، وقال: "يضع التعب يده على أهدابي، كأنه يفرض عليها النوم.. لكن ما من شيء يستطيع أن يضع يده على أحلامي". كان يحلم جبران كلَّ يوم برياء الحياة في لبنانه فيصرخ كل مرة بأوجاع لبنان، فمن (الأرواح المُتمرِّدة) إلى (الأجنحة المتكسرة) التي قرأناها في مناهجنا المدرسية؛ والتي آثر الحبيبان فيها الاستسلامَ للصعاب المفروضة عليهما على أن يتحدَّيا حقهما المشروع في الحب. ثم إنه نشر كتابًا بعنوان (دمعة وابتسامة) عام 1914؛ وهو مجموعة مقالات من الشعر المنثور نشرها جبران في جريدة المهاجر بين عامي 1903 و1908.
وفي عام 1919 أطلَّ علينا جبران بقصيدة "المواكب" التي تجلَّت فيها فلسفة جبران بوضوح بين إيمانه بفطرة الإنسان الإلهية وما كان يراه واقعًا بشعًا مؤلمًا وقبيحًا.
وقد غنَّت السيدة فيروز قصيدته بعنوان (أعطني الناي وغنِّ)، ثم إنها غنَّت له مقاطع من كتاب (النبي) أشهر مؤلفات جبران الشعرية والأكثر مبيعًا بعد شكسبير ولاوزي، والتي سنفرد الحديث عنها في مقال آخر. وغنَّت له قصيدة (الأرض) التي مطلعها "سفينتي بانتظاري"، وقصيدة (يا بني أمي).
وبالتطرق إلى الفنانين الذين تغنَّوا بسحر كلمات جبران؛ نذكر جون لينون الذي غنَّى مقطعًا من قصيدة (رمل وزبد)، والفنان الأمريكي اللبناني جبريل عبد النور، وعزف له فنان الجاز الأمريكي جاكي ماكلين مقطوعة موسيقية سمَّاها (جبران النبي).
إنَّ الحديث عن جبران كالينبوع الذي لا ينضب، كالوحي الذي لو اختصرت التفاصيل فيه ترتكب المعصية؛ ولكنني آثرت في هذا المقال أن أختزل الحكاية في أول رائحة شممتها في مؤلفات جبران، صادقت الليل وأغمضت عيني، وعندما انتهيت رأيت جبران خليل جبران أمامي!
لقد كانت فكرة الرابطة القلمية يومًا ما (التي أسَّسها جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وعبد المسيح حداد ونسيب عريضة) تجديدًا للأدب العربي وإخراجه من المستنقع الآسن، واليوم في سبيل الفكرة ذاتها أضأنا شمعةً واحدةً في الحديث عن شمس جبران.
لقد تُرجمَت أعمال جبران إلى أكثر من 20 لغة في أنحاء العالم، فضلًا عن تعريب جميع أعماله التي نشرها في المهجر. نُعرِّفكم جميع مؤلفاته وأعماله مرتبة ترتيبًا تاريخيًّا وفق "لجنة جبران الوطنية":
الموسيقا 1905
عرائس المروج 1906
الأرواح المُتمرِّدة 1908
الأجنحة المُتكسِّرة 1912
دمعة وابتسامة 1914
المجنون 1918 (أول أعمال جبران باللغة الإنكليزية)
المواكب 1919
عشرون لوحة فنية من مجموعة جبران 1919
العواصف 1920
السابق 1920
النبي 1923
البدائع والطرائف 1923
رمل وزبد 1926
يسوع ابن الإنسان 1928
أرباب الأرض 1931
التائه 1932 (نُشر بعد وفاته)
حديقة النبي 1933 (نُشر بعد وفاته)
ألم يتكلَّم جبران بلسان حالك يومًا؟ شاركنا أجمل ما قرأت لجبران، كتاب أو اقتباس أو حكمة.