العلاج الماوراء معرفي: ما هو؟
علم النفس >>>> القاعدة المعرفية
سنبدأ أولاً بتوضيح معنى كل من المعرفة والعلاج المعرفي قبل أن نتمكن من فهم آلية عمل العلاج الما وراء معرفي:
المعرفة : تُشير المعرفة إلى العمليات الذهنية المتعلقة بإدراك المعلومات وتشمل وظائف ذهنية مختلفة كالذاكرة والتصنيف والانتباه والملاحظة والتمييز ووظائف أُُخرى. العلاج المعرفيّ هو أحد طرق العلاج النفسي الذي يُستعمل في الكثير من الأمراض النفسية مثل الكآبة والقلق وتعكر المزاج الثنائي القطب وحالات نفسية أُُخرى ويستند على مساعدة المريض في ادراك وتفسير طريقة تفكيره السلبية بهدف تغييرها إلى افكار أو قناعات ايجابية أكثر واقعية, ويُستعمل هذا النوع من العلاج بصورة متزامنة مع الأدوية المستعملة لعلاج الكآبة.
يتمثل العلاج المعرفي بفكرة أن بعض الاضطرابات النفسية قد نعزو أسبابها لوجود خلل في أحد العناصر أو الوظائف المعرفية، فقد يُبالغ المريض في أفكاره ومعتقداته عن الأشخاص والعالم المحيط به وهذه الأفكار بدورها تساهم في تفاقم المرض, فيكون الهدف من العلاج المعرفي أن نوضح للمريض عدم صحة وواقعية هذه الأفكار مما يخفف من حدة مرضه.
على سبيل المثال: قد يرى مريض- مُصاب باضطراب القلق العام GAD- البيئة المحيطة به كمصدر خطر يشكل تهديدا له, حيث يميل لتذكر أحداث مؤلمة ومُخيفة أكثر من تذكره للأحداث الجيدة والمُطمئنة ويبالغ ايضا في تقديره لمسببات أحداث تتسم بالخطورة بينما يُقلل من أهمية مسببات ما قد يؤدي لحدث إيجابي ومُريح.
يكمن دور المعالج المعرفي في كونه الشخص الذي يساعد المريض على إعادة النظر بهذه العمليات الذهنية و توجيهه لإدراك عدم صحتها فمثلا قد يطلب المعالج من المريض كتابة كم المرات قد تُصيب توقعاته عن الأحداث اليومية التي يمر بها والنظر في نهاية الأسبوع لهذه التوقعات ورؤية فيما اذا كانت توقعاته صائبة بالفعل أم لا (غالبا تكون التوقعات غير صائبة) ومع تغيير المريض لأفكاره السلبية تبدأ أيضا أعراض مرضه بالتحسن و التناقص بشكل تدريجي.
إن وعيك بعمليات ما وراء المعرفة؛ أي بأفكارك وعملياتك الذهنية التي تقوم بها كل يوم سيكون له أثراً كبيراً في تغيير حياتك بشكل غير متوقع، حيث تشير أعداد كبيرة من الأبحاث الحديثة إلى أن العمل على عملية التفكير بما وراء المعرفة- أي تفكير الفرد بما يعرف ووعيه بأفكاره ومراقبتها المستمرة وتنظيمها- يُساعد على تخفيف اضطرابات القلق وتقلب المزاج، ومن شأنه أيضا التقليل من أعراض الذهان (Psychosis).
فعادة ما تأخذ عملية التفكير بما وراء المعرفة شكلاً من تقييم الفرد لأفكاره، أو إصدار تقييمات وأحكام لأفكاره كقوله "إنني أبالغ في تحليل كل شيء"، وهذا أمر سيءٌ بالطبع. تقول العالمة النفسية (جينيفر هادسون، Jennifer L. Hudson): "تلعب أفكار ما وراء المعرفة دوراً أساسياً في تجنب زيادة اضطراب الوسواس القهري والاكتئاب واضطرابات القلق العامة وغيرها من الأمراض، والحقيقة أن هذه الأفكار تتفوق في أهميتها على الطريقة التي نُحدد فيها مزاجنا تجاه مواقف معينة في أذهاننا، كالتركيز على الجوانب السلبية لحدث ما، ويُسمى هذا التحديد "التقييم المعرفي"، وهو غالباً ما يتم التطرق إليه ومعالجته في العلاج النفسي، إلا أنه نادراَ ما يتم التطرق لعمليات ما وراء المعرفة، وبالتالي قد لا يصل المريض للفائدة المرجوة من العلاج".
وجدت دراسة تم نشرها في مجلة الصحة النفسية السريرية للبالغين والأطفال (Journal of Clinical Child & Adolescent Psychology) أن لدى (83) طفلاً يعانون من اضطرابات القلق معتقدات وأفكار سلبية وإيجابية عن القلق أكثر من نظرائهم من الأطفال الذين لا يعانون من القلق على الإطلاق، فقد تراودهم أفكار سلبية إزاء القلق كفكرة " قد يقودني القلق إلى الجنون" -على سبيل المثال-، وربما تراودهم أفكاراً إيجابية كفكرة "يُشعرني القلق بالتحسن". تقول (هادسون، Hudson) المشاركة في الدراسة تعقيباً على ذلك: "نعتقد بأن هذه الأفكار تلعب دوراً عرضياً أو على الأقل تساهم في تعزيز اضطرابات القلق".
وقد أثبت علاج الماوراء معرفي نجاحه في علاج تقلبات المزاج واضطرابات القلق وفقا لجملة واسعة من الأبحاث والدراسات، حيث تم تطويره عام (2008) من قبل عالم النفس السريري (آدريان ويلز، Adrian Wells) في جامعة مانشستر (University of Manchester)، حيث يساعد هذا العلاج المرضى على إدراك أفكارهم الما وراء معرفية بشكل مستمر، إلى جانب تنظيمها، و خاصةً تلك الأفكار التي تعزز آليات التكيف غير المجدية- كفكرة : "إن قلقي من الصعب السيطرة عليه"، ويتم معالجة هذه الأفكار الما وراء معرفية بنفس الطريقة التي يتم استخدامها في علاج السلوك المعرفي. فالعلاج المعرفي يتطرق لمعالجة المعتقدات التي تنم عن فكرة عدم التكيف مثل "إن هذا العالم غير آمن على الإطلاق"، وتساعد هذه التقنية الأشخاص على أن يكونوا أكثر مرونة في الطريقة التي يُقًيمون بها أفكارهم بدلاً من إهمالها واستجرار المزيد من تلك الأفكار دون جدوى.
ووفقاً لدراسة أُخرى في صحيفة (المجلة اليابانية عن الشخصية، Japanese journal of personality) لاختبار فيما اذا كان علاج ما وراء المعرفي يستطيع فعلاً أن يُخفف من الاجترار الاكتئابي* (الشرح في الهامش) من خلال نفي الاعتقادات الإيجابية عن هكذا نوع من التفكير مثل فكرة: "الاجترار- لأفكارنا السلبية حول المواقف والأحداث- قد يزودنا بالبصيرة والحكمة لقراءة تلك المواقف"، تم إخضاع عدد من الطلاب الجامعيين لذلك العلاج، وقد عمل بالفعل على تخفيف قابليتهم و ميلهم للإسهاب في أفكارهم السلبية.
وما أثار الدهشة أيضا دراسة لمجلة العلاج السلوكي والطب النفسي التجريبي (Journal of Behavior Therapy and Experimental Psychiatry)، والتي وجدت بأن العلاج ما وراء المعرفي قد قلل من أعراض مرض الذهان، و بناءً على معطيات ونتائج دراسات اتبعت العلاج السلوكي المعرفي لعلاج الاضطرابات النفسية، قام باحثون بإخضاع عشرة مرضى ممن يعانون من مرض فصام الشخصية لاثنتي عشرة جلسة من العلاج الما وراء معرفي لمدة تسعة أشهر، وأظهر بعد نهاية العلاج خمسة مرضى تحسناً ملحوظاً بنسبة (25%) على الأقل حيث أظهروا انخفاضاً في أعراض هذا المرض، كما حافظ أربعة مرضى من أصل أولئك الخمسة على ذلك التحسن بعد انتهاء العلاج بثلاثة أشهر.
وعلى الرغم من أننا بحاجة لمزيد من الأبحاث لإثبات المزيد عن فعالية هذا النوع من العلاج، إلا أن العديد من الباحثين والأطباء أدركوا أهميته وضرورة تطبيقه، ليس فقط للتطرق إلى أفكار محددة تجول في رأس المريض، بل لما وراء ذلك وصولاً إلى معتقدات المريض الكامنة وراء تلك الأفكار، والتي تعمل على ترسيخها.
أخيراً يقول (روبن بايلي، Robin Bailey) المرشح للحصول على شهادة الدكتوراه في جامعة مانشستر، والذي ألف بحثاً حديثاً أظهر فيه الترابط والتلازم بين عمليات ما وراء المعرفة والقلق النفسي حيث قال: "إن للعوامل الما وراء معرفية دوراً حاسماً في تحديد أساليب التفكير غير المجدية، التي تساهم وتزيد من الاضطرابات النفسية", وأضاف أيضاً : "تكون عملية كيف يفكر المرء أهم بكثير مما يفكر به."
الهامش: *الاجترار الاكتئابي أو الاجترار الكئيب (Depressive Rumination): هي العملية التي يقوم من خلالها الفرد بالنظر الى وتقييم سلبيات وسيئات المواقف التي يمر بها كفشل معين والمشاعر التي تراوده، أي أنه نوع من القلق الشديد واللاعقلاني الذي غالباً ما يترافق مع الاكتاب السريري، ويؤثر على قدرات الفرد التقييمية والوظيفية.
المصادر:
هنا
هنا