سحرُ التّفاصيل في خَلْقِ الجمال. فن الفسيفساء.
الفنون البصرية >>>> فن وتراث
هي قطعٌ صغيرة، مُكعّباتٌ خشنة (عادةً)، ملوّنة بأزهى الألوان، تُرصّع إلى جانب بعضها البعض مُشكّلةً تُحفةً فنيّةً مُعتّقة تُبهر بجمالها عينَ النّاظر !
سنذهب معاً في رحلةٍ إلى التاريخ الموزاييكيّ ماقبل الميلاد، وصولاً إلى يومنا هذا .
لعلّ تحديد الأصول التاريخية وعلامات نشوء هذا الفنّ العريق كان من المهمّات الصعبة والطويلة الأمد على عاتق المؤرّخين، فـ فنّ الموازييك يعود لأكثر من 4000 عاماً، الأدلّةُ التاريخية تُخبِرنا بأنّ أصول وبدايات الموزاييك تعودُ للمنطقة الجنوبية من بلاد مابين النهرين (العراق في يومنا هذا) .
بدايةً ، كانت تُصنع هذه الأيقونات الفنيّة اعتباراً من مخاريطَ فخّارية ( أقماع صغيرة من الفخّار) تُرصَّع بها الجدران وأعمدةُ الأبنية، هذه المخاريط كانتْ تُلوّن وتُمدّ بانتظامٍ على هيئة نموذج هندسيٍّ مُزخرف ثمّ تُضغط بشدّةٍ في الجدار المطليّ بطبقةٍ ثخينةٍ من مادّة لاصقة رطبة .
هذه التّقنية سُميّت "الموازييك المخروطي"، وكانت تُستعمل لتزيين الأصنام الأثريّة المصنوعة من اللّبان ( كانت تُشكّل في معظمها رموزاً دينيّة وعقائديّة حينها) وفي فنّ عمارة القصور .
صناعةُ الموازييك نهضتْ بشكلٍ مُتفرّدٍ ومستقلّ من بين عددٍ كبير من الحرف والثّقافات التقليدية حول الأرض، أقدمها تلك "الصّينية" منها، حيث كان الصّينيون يَنظمُون بدقّة وبراعة الموازييك من الحصى المرصوف . أمّا السّومريون فقد استعملوا ما يُسمّى بالقضبان المخروطية ضاغطين إيّاها في الجدران والأعمدة مُنتجين بذلك تصميماً هندسيّاً .
حوالي 800 عاماً قبل الميلاد، بدأ الإغريق بإنتاج الموزاييك الحَصَوي، بدايةً كانت التّصاميم هندسية أيضاً وغالباً تُشبه زخرفات البُسط والسّجاد ، ولكن فيما بعد أصبحتْ تصاميمهم مُعقّدةً أكثر وأصبحت أعمالهم أكثر دقّة حيثُ اقتصدوا وأصبحوا يقطّعون المكعّبات الصغيرة من القضبان الحجرّية المُستعملة في البداية .
الرّومانيون كانو الأكثر تميّزاً ، ففي أول الأمر دخلوا مجال المُنافسة مع غيرهم، أما لاحقاً انتقلوا بصناعة الموازييك إلى مرحلةٍ جديدة، وبدأت تصاميمهم تأخذ منحى الرّسوم الهندسية الأكثر تعقيداً، الحُروب المصوّرة، قصصٌ عن الآلهة وأساطيرهم، ومشاهدٌ من الحياة اليوميّة .
الأسطحُ المرصوفة سادتْ حينها، ولكن الموازييك أيضاً شُكِّلت على الجدران وأخيراً على الأسقف .
في غضون عام 480 م، بدأ الزّجاج والذهب بأخذ مكان الحجر كمادةٍ رئيسيّةٍ في صناعة الموازييك، وكذلك الموضوعات أخذت المجرى الدّيني الّذي تمثّل بفنّ الأيقونات الكنائسيّة .
خلال عهد البيزنطيين، وصل هذا الفن لأعلى مراحل ازدهاره وتقنيّاته، فإلى جانب الأرضياّت والجدران، قام الحرفيّون بتزيين القناطر و واجهات المعابد والقصور، مستعملين قطعاً من الرّخام، الأحجار الطبيعية، الزجاج الملوّن وحتى الذهب والفضّة .
أما عن فنّ الموزاييك أو الفسيفساء في يومنا هذا وخاصّةً في المنطقة العربية فإن مدينة "مادابا" الأردنّية، تعدّ واحدة من أغنى المدن من ناحية امتلاكها لتراث فن الموازييك الحِرَفي، والموازييك اليوم لديهم هوَ من أكثر الحِرَف اليدويّةِ التّراثيّة شيُوعاً ومُلائمَةً للعصر، فالحرفيّون لديهم فُسحةُ استغلال الألوان الحجريّة بدءاً من "البازلت الأسود" وانتهاءً بـ "الغرانيت الأبيض" مروراً بكافة تدرّجات الألوان البرّاقة بينهما .
"مادابا" تُعدّ مركزاً لاحتواء أكبر مجموعة موزاييك أثريّة في العالم، إنها القائدُ العصريُّ لإعادة إحياء هذا الفنّ العريق .
"إعادةُ ترميم الموازييك الأثريّ" شجّعتْ وأفسحتْ المجال لظهور جيلٍ جديدٍ من الحرفييّن المُبدعين في هذا المجال .
ولا ننسى أيضاً المرور بفلسطين وسوريا ( بلاد الشّام عموماً) اللّذين أبدعوا ومازالوا يبدعون بدقّة ومهارة ويتناقلون حرفيّة وعراقة هذا الفنّ من جيلٍ إلى آخر، ويُمارسونه بشكلٍ يدويّ مُحافظين عليه كتقليدٍ عتيق لا يجوزُ أن تخلو منه ذاكرةُ الماضي ولا الحاضِر .
المصادر :
هنا
هنا