الذكاء: بين تأثير الوراثة، ودور المحيط.
علم النفس >>>> القاعدة المعرفية
هل هو جينيّ أم مكتسب؟ موروث أم قابل للتعلّم؟ في مقالنا الآتي سنطرح جانباً عن أحد أهم وأكبر الأسئلة في مجال علم النفس: من أين يأتي الذكاء؟ تخيل عينة كبيرة من الناس يمتلك أفرادها مستوياتٍ متباينةً من الذكاء، رغم أن بعضهم إخوة أو أقرباء، إلا أنّ ذلك ليس كافياً لايجاد مصدر تلك التباينات فيما بينهم، فإن طرحنا السؤال التالي: هل أتى ذكاء كلّ منهم من مورثاته وبالتالي فهو صفة موروثة مقررة سلفاً منذ لحظة تلقيح البويضة؟ أم أنه وبغض النظر عن المورثات فمن يمرّ بظروف معينة من غذاء كافٍ وحياة صحيّة وتربية وتعليم مناسب بإمكانه أن يرفع مستوى ذكائه رغماً عن تأثير المورثات؟ وكيف بإمكاننا تصميم تجارب تجيب عن هكذا سؤال! حقيقة الأمر، إن السؤال جدلي جداً، لا يعني ذلك عدم وجود دراسات واسعة حول الموضوع.، بل على العكس تماماً، فقد طرح الباحثون في مجالات البيولوجيا والطب وعلم النفس هذا السؤال منذ قرنين، وسعوا لإيجاد جواب له منذ حينها، إلا أنه يوجد جدل واختلاف حول نقاط عدة أهمها ما يلي: - صعوبة ومحدودية القدرة على اختيار عينة مناسبة وممثلة من الأفراد بحيث تكون النتائج المستخلصة شاملة ودقيقة.
- اختلاف النتائج بين الدراسات المختلفة وتفاوت مجالها.
- جدل حول دقة نتائج وشمولية بعض هذه الدراسات.
- عدم القدرة على فصل وعزل العامل المحيطي وتأثيره، أو دراسة أثر الوراثة بشكل منفصل عن أثر المحيط.
إذاً.. يعيدنا هذا الى السؤال الرئيسي: هل الذكاء ناتج عن تأثير الطبيعة أم التعلم؟ أي هل هو موروث أم مكتسب؟ - من المفيد أن نعرّف الذكاء أولاً قبل الخوض في الإجابة، فالذكاء تعريفاً هو القدرة على تلقي المعلومات، اكتساب المهارات، واستخدام وتوظيف هذه المهارات بشكل مفيد.
ما يمكننا إجابته بشكل حاسم مبدئياً- أي ما نعلمه ثقةً- هو أن الذكاء لا ينتج عن الوراثة فقط، وهو ليس وليد عملية التعلم فقط، بل هو نتاج تأثير العاملين، والجدل الحقيقي هو حول مدى التأثير النسبيّ لكل عامل منهما.
- منذ منتصف القرن العشرين على الأقل، قامت دراسات عديدة على عدد واسع من الأطفال، اليافعين من عمر 18-25 عاماً، والبالغين في محاولةٍ لاستخلاص نتائج واضحة ومفيدة، إلا أن معظم ما توصلت إليه هذه الدراسات كان متبايناً ومثيراً للجدل.
إلا أنه في النهاية، وباختصار شديد لحقبة طويلة من الدراسات والتجارب، خلصت الدراسات التجميعية الى أن 20-40% تقريباً من ذكاء الطفل موروثٌ من الأبوين، فيما ترتفع هذه النسبة لتشكل 70-85% من ذكاء الشخص البالغ.
- وقد طرحت هذه النتائج سؤالاً جديداَ، وهو لماذا تتغيرهذه النسبة بين الطفولة والبلوغ؟ حقيقةَ فإن ذلك هو نتيجة ما يدعى بتأثير ويلسون (Wilson's Effect)، وهو المصطلح الذي يطلق على زيادة تأثير المورثات والجينات المسؤولة عن الذكاء في الشخص مع التقدم بالعمر، وقد تمّ إثبات هذا التأثير عن طريق عدّة دراسات على التوائم إلا أنّ آليته ليست واضحة بالكامل بعد، وقد تعود إلى أنّ مورثاتٍ مختلفة مسؤولة عن الذكاء تبدأ بالعمل والتعبير في مراحل متأخرة من عمر الإنسان، بالإضافة لعامل آخر وهو أن محيط الطفل في صغره إنما يتأثر بشكل كبير بالأبوين وخياراتهما، بينما عندما يكبر الطفل تزيد استطاعته على التأثير بمحيطه، وبالتالي بذكائه، فقد يختار القراءة أكثر، أو إكمال تعليمه، أو استكشاف مهاراته ومواهبه. لذلك من المهم جداً نصح الأهل وحثهم على تهيئة جو تعليمي مناسب للطفل منذ الصغر، كالقراءة له وتوفير الألعاب التعليمية.
- بالإضافةً الى ذلك، لعل من أهم الأشياء التي يسعى العلماء لمعرفتها اليوم حول تأثير الوراثة على الذكاء هي الجينات المحددة المسؤولة عن صفة الذكاء تلك، ولم تتوصل الأبحاث في هذه المجال الى أي نتائج تذكر حتى الآن. - أما بالنسبة لدور المحيط وأثره في صنع الذكاء، فله أيضاً دور لا يمكن تجاهله، فثبات واستقرار البيئة العائلية والتعليمية، بالإضافة للوضع الاقتصادي للعائلة التي ينشأ فيها الفرد كلها عوامل تؤثر على ذكائه.
و من الأمثلة على ذلك هي الدراسات التي وجدت أن التوائم التي يتم فصلها عن بعضها وتنشئتها بمحيطين مختلفين تكون مختلفة الذكاء، وهو ليس إلا دليل على دور المحيط في تنشئة الانسان وصقل ذكائه.
- ومن الظروف الأخرى التي يمكن أن يكون لها أثر على ذكاء الإنسان هي نوعية الغذاء، فحتى مع امتلاكه المورثات التي تحمل قابلية لتطوير معدل ذكاء مرتفع، يمكن لضعف التغذية وفقر الغذاء بعناصر معينة أن يخفض من معدل الذكاء، ويبدأ ذلك منذ فترة الحمل حيث أن نقص اليود لدى الحوامل يسبب انخفاض القدرات الإدراكية والمهارات السلوكية والأداء المدرسي لدى الأطفال، ويكون لهذا الانخفاض أثرٌ دائم غير قابل للعكس. كذلك يكون أثر التغذية عالي الأهمية في فترة الطفولة وأثناء نمو الدماغ، فالأطفال الذين حرموا من عناصر معينة في غذائهم أثناء فترة النمو مثل نقص الحديد، الزنك، فيتامين B2 وبعض البروتينات يعانون من انخفاض في معدل الذكاء، وكذلك انخفاض الأداء في اختبارات المعلومات والذاكرة واستكمال الصور وفهم الرموز وغيرها. بالمقابل، يتأثر ذكاء الفرد سلباً نتيجة تعرضه في مرحلة الطفولة إلى حمية تحتوي على نسبة عالية من الدهون، السكريات، والمواد الغذائية المعالجة أو الوجبات السريعة.
أحد الأمثلة التي توضح الأثر التفاعلي ما بين البيئة والوراثة على ذكاء الانسان الناتج هو اضطراب بيلة الفينيل كيتون الوراثي ‘ PKU’، حيث يكون لعنصر غذائي واحد أثر دراماتيكي على تطور القدرات العقلية لدى هؤلاء المرضى. بسبب تعطل عمل الأنزيم المسؤول عن استقلاب الحمض الاميني فينيل آلانين لدى هؤلاء المرضى فإن تناول كميات منه ضمن غذائهم يسبب تراكمه ضمن الجسم مما ينتج اضطراباً عقلياً شديداً يتضمن ضمور الجمجمة والدماغ إضافةً إلى إعاقة عقلية وتأخر في النطق وتطوير سلوك اجتماعي عدواني. أما حين يتمّ تشخيص هذا المرض باكراً فيكون العلاج في غاية السهولة: تجنب تناول هذا الحمض الأميني في طعام الأشخاص الذين يمتلكون هذا الاضطراب الوراثي، وبذلك نمنع اجتماع الظروف الوراثية والبيئية التي تسبب هذه الحالة معاً و يتطور دماغ المريض وقدراته العقلية بشكلٍ طبيعي تماماً.
- إضافة إلى الغذاء، يؤثر التعرض إلى بعض الكيمياويات سلباً على معدل الذكاء، فقد اظهرت دراسة أنّ استخدام الأمهات لمنتجات تحتوي على مادة الPhthalate مثل بعض أنواع البلاستيك، مزيلات التعرق، معطر الجو وغيرها اثناء الحمل، قد يتسبب بانخفاض معدلات الذكاء لدى أطفالهم بما يصل إلى 6-8 درجات، وكذلك يفعل التعرض إلى مادة’ Perchlorate’ التي تستعمل في وقود الصواريخ والألعاب النارية ويمكن لها أن تبقى فترات طويلة في التربة. يسبب التعرض إلى بعض الكيمياويات بجرعات كبيرة كالفلوريد اضطراباً في تطور ونمو الدماغ، كما يمكن للتعرض إلى بعض السموم والمعادن الثقيلة بشكل خاص أن يؤدي إلى تأثر القدرات العقلية حتى لدى البالغين، كالرصاص والزئبق والكادميوم وغيرها.
ختاماً، يسعنا القول أن الذكاء الوراثي هو بمثابة مادةٍ خامة أولية تعطى من الأبوين للطفل، تتطور وتصقل بفعل البيئة المحيطة وخيارات الشخص خلال نموه ونضجه، ولا يمكن تحقيق الذكاء إلا بتحقيق توازن بين العاملين وضبطهما.
المصادر:
هنا
هنا
هنا
هنا
هنا