هل هي فعلاً محاولة لإنقاذ البحر الميت؟
الطبيعة والعلوم البيئية >>>> علم البيئة
زرقة البحر الميت لا تتغير، لكنّ الزوار يلاحظون كيف بات يفقد صفاءه وماءه باستمرار، حيث يسبب التبخر تكشـّــف مخازن ملحية كبيرة. قد تصل المياه العذبة من الينابيع الجوفية القريبة أحياناً، فيــُـحلّ هذا الملح تاركاً تجاويف بالآلاف تسمى فتحات الصرف/البلع sinkholes والتي قد تنهار فجأة تحت أدنى ضغط أو وزن مبتلعةً الناس والمنازل والطرق. وبهذا المعدل من التجفاف الذي تسببه حرارة المكان فلن يكون البحر الميت أكثر من بركة بحلول العام 2055 حسب ما يتوقع البعض.
طمحت "إسرائيل" منذ زمن طويل إلى دمج منخفض البحر الميت مع البحر (المتوسط أو الأحمر) بهدف توليد الطاقة الكهرومائية الناتجة عن تدفق المياه مع ممال الانحدار (فرق المنسوب بين البحرين)، وفي السنوات الأخيرة اعتبر الاندماج مع البحر الأحمر أيضاً وسيلة لملء البحر الميت وإعادته إلى مستوياته الصحية (بمعنى إنقاذه)، لكن العلماء شككوا فيما قد يعنيه إنقاذ البحر الميت حقاً لكون مستويات المياه فيه كانت قد ارتفعت وتراجعت مع تغيير المناخ على مدى دهور من الزمن الجيولوجي.
بصرف النظر عن المعتقدات الثقافية والدينية القوية المرتبطة بهذا البحر ومن يؤمن بها، فإن سلامة شواطئه ضرورية للحفاظ على السياح لكن الحافز وراء الإنقاذ المزعوم للبحر عبر ربطه بالأحمر يأتي للأسف على يد أولئك الذين يتباكون خوفاً من خسارته لكنهم يستنزفون في الوقت عينه موارد البحر وثرواته.
يتسبب تغير المناخ اليوم بنسبة ضئيلة من انخفاض منسوب البحر الميت على عكس الانكماشات السابقة خلال تاريخه، فالمتّهم الرئيسي الآن هو الاستخدام الجشع للمياه من الجانب الإسرائيلي، بالإضافة إلى استغلال لبنان وسوريا والأردن لنهر الأردن -الرافد الرئيس- دون هوادة لأغراض الشرب والري وهذا يمثل ثلثي فاقد المياه السنوية. تستهلك شركتا البوتاس العربية في الأردن وأشغال البحر الميت الإسرائيلية كميات كبيرة من المياه أثناء سبرهما للبحر بحثاً عن المعادن أيضاً.
وقعت الأردن و"إسرائيل" عام 1994 معاهدةً مشتركة لتطوير الحدود بينهما بما في ذلك حدود البحر الميت، ووضعت مسودة خطة لوصل البحرين الأحمر والميت بأنابيب عملاقة فيما سمي بـ "قناة السلام"؛ كدليل على حسن النوايا وتعزيز التعاون! كان الهدف نقل المياه مسافة 177 كم عبر الصحراء، من الأحمر نزولاً 300 م باتجاه الميت، بكلفة 800 مليون دولار؛ وذلك لتوليد الطاقة الكهرومائية عند المصب على البحر الميت، إلّا أنّ الحد من انخفاض منسوب هذا الأخير كان من ضمن الأهداف أيضاً.
تم التخطيط للاستفادة من الطاقة المولّدة في تحلية نصف المياه الآتية إلى المصب، وتوقع المخططون أن تكون النتيجة 900 مليون متر مكعب سنوياً من المياه الصالحة للشرب لـ "إسرائيل"، للأردن العطشان وللسلطة الفلسطينية أيضاً، و900 مليون متر مكعب أخرى لخلق استقرار في شواطئ البحر الميت الآخذة في الانحسار.... لكن وسط هذه الإغراءات ظهر المعارضون!
فلمَ الاعتراض؟!
يعتقد بعض العلماء أن الطحالب الحمراء القادمة من البحر الأحمر ستطفو على سطح البحر الميت، تتدفأ بفعل الشمس، ثم تتكاثر مشكلةً مداً سامّاً أحمر اللون وهائلاً قد يحول زرقة البحر الميت إلى لون الدم المجفف. كما أن اختلاط المواد الكيميائية في نوعي المياه سيخلق الجبس (المعدن المكوّن من الكالسيوم والكبريتات والماء) الأمر الذي سيصبغ البحر الميت بالأبيض الحليبي، ناهيكم عن ذلك، ثمـّـة خشيةٌ من تسرب المياه أثناء المرور عبر الأراضي المعرضة بطبيعتها للزلازل. كما أن تدفق مياه البحر الأحمر المالحة سيلوث في طريقه المياه الجوفية العذبة المستخدمة في الشرب والزراعة والتي تعاني أصلاً من شح.
طلب الإسرائيليون والأردنيون والسلطة الفلسطينية عون البنك الدولي لتسوية النقاش عبر دراسةٍ لتقييم المخاطر. كلّفت الدراسة 16.5 مليون دولار وانتهت في يونيو/كانون الثاني 2013. وجدت الدراسة أن هذا المشروع الضخم سيهدد المياه الجوفية ويمكن أن يحول البحر الميت إلى بحر أبيض أو أحمر اللون. عائق آخر أظهرته الدراسة –غير الرخيصة– هو أن الطاقة المتولدة عن تدفق المياه نتيجة الانحدار قد تكون كافية فيما لو أنجز مشروع تحلية مياه الشرب، لكنها لن تكون كافية لإعادة ضخ المياه المحلّاة إلى حيث الحاجة الرئيسية إليها في عمّان (عاصمة الأردن) وسيتطلب إرسال المياه إلى هناك بناء محطتين إضافيتين للطاقة وبذلك سترتفع كلفة المشروع إلى 10 مليارات دولار أي إلى 10 أضعاف ما كان متوقعاً!
تم إقرار خطة معدّلة في ديسمبر/كانون الأول 2013 لتلافي هذه الإشكاليات ينطوي الجزء الأول منها على مقايضة المياه:
- بناء محطات التحلية في خليج العقبة لاستخراج أكثر من 80 مليون متر مكعب من الماء الصالح للشرب في العام؛
- تقسيم ذلك بين مدينتي العقبة في الأردن وإيلات في الأراضي المحتلة؛
- تبيع "إسرائيل" في المقابل الأردن مياهاً عذبة من بحيرة طبرية لسد حاجة العاصمة عمّان وللفلسطينيين في الغرب.
بدت الخطة جيدة بيئياً لكنّ تنقيحها شمل أيضاً إنشاء قناة بين البحرين الأحمر والميت لنقل 80 مليون متر مكعب من المياه المالحة الناتجة عن تحلية مياه البحر الأحمر وضخها في البحر الميت، وينبغي للضخ البسيط للمحلول الملحي هذا ألا يؤدي إلى "تحلّب" أو "تحمّر" مياه البحر الميت حسبما تؤكد دراسة البنك الدولي.
كان لعلماء البيئة رؤيةٌ أخرى ثابتة ضد كل ذلك، فقطرة واحدة إضافية قد تحول البحر الميت إلى أحمر وينبع انتقادهم من أن دراسة البنك الدولي لم تأخذ في الحسبان أشكال الحياة التي وجدت مؤخراً في البحر الميت.... فعن أي أشكالٍ يتحدثون؟
حيوات أخرى:
عرف العلماء في التسعينيات أن البحر الميت كان جزءاً من عمليات اندماج مائية مخفية، تتمثل بضخّ ينابيع من المياه العذبة القادمة من محيط القدس ودخولها تحت تجويف بحيرة الملح. بصرف النظر عن هذه الينابيع، اعتقد معظم الخبراء أن السطح غير المتموج الأزرق للبحر الميت والمستويات العالية من المغنيزيوم، الكالسيوم والفوسفور كانت خالية من جميع أشكال الحياة ما عدا بعض الأمثلة المتناثرة؛ إلى أن تمكّن خبير أحياء دقيقة ألماني /عام 2009/ من أخذ عينات من الينابيع آنفة الذكر تحت الماء والتي يجري بعضها لأكثر من 100 مترٍ ولعمق يصل إلى 20 متراً، ووجد حياة جديدة صارخة من الأحياء الدقيقة موجودة في البحر الميت.
مع النزول في أعماق البحر الميت متراً بعد متر، تشاهَد أغشيةٌ تنبض بالحياة بيضاء وخضراء اللون كالسجاد تغطي الصخور والرمال حول العديد من الينابيع العذبة الصغيرة، وتقود الثقوب إلى أخرى تعج أيضاً بالحياة القائمة على مزيد من ينابيع المياه العذبة حتى ينحدر قاع البحر بشكل حاد متوجهاً نحو الهاوية على عمق 300 م. كان كل ينبوع عذب في الأسفل يدعم أشكالاً من الأحياء الدقيقة التي لم يسبق وصفها، أما عن مصدر الكائنات فهو رواسب البحر الميت وليس المياه العذبة نفسها، فالينابيع العذبة كانت مصدر غذاء فقط. وعلى الرغم من عدم إجراء دراسة مستفيضة إلا أن أنواعاً جديدة تم تحديدها تنتمي إلى بكتريا الكبريت الخضراء والبكتريا المزرقة والدياتومات. من بين الخصائص الفريدة للأنواع المكتشفة قدرتُها على التكيّف مع التغيّرات الشديدة في الملوحة والناجمة عن تذبذب تدفق الينابيع.
ما مدى سوء العواقب؟
إن عواقب إضافة مياه البحر الأحمر إلى التوازن النادر للمعادن الموجود حالياً في البحر الميت لا تزال غير معروفة. لكن يمكن للمرء أن يتوقع أن ميكروبات جديدة قد تزدهر على السطح كالطحالب الحمراء الأمر الذي سيفقد البحر زرقته المثالية وسحرَه السياحي.
يعتمد الأمر على المدى الذي ستخفّف فيه ملوحة مياه البحر الميت. إن ما تقذفه الينابيع العذبة يصعد إلى السطح لخفّته حاملاً البكتريا، وستنمو هذه الكائنات نفسها وتزهر على السطح فيما لو خٌفّفت مياه البحر الميت إلى الدرجة المطلوبة. في الواقع لن تكون هنالك حاجة إلى تخفيف البحر الميت ليتغير لون سطحه فكما تطفو ملعقة الزيت في كوب الماء فإن كل ما يحتاجه الأمر هو طبقة رقيقة خفيفة الوزن من مياه البحر الأحمر الأخف وزناً (لكونها أقل ملوحة) ليحدث تغير في لون البحر بصرف النظر عما يحدث أسفل هذه الطبقة.
افترض آخرون أن القناة المزمع إنشاؤها قد تزيد من ظاهرة فتحات الصرف/البلع *. كما أن الماء المخفّف (لحمله مستويات ملح أقل من مياه البحر الميت) سيكون قادراً على التوغل ضمن شواطئ البحر ناقلاً الملح إلى طبقات المياه الجوفية والمجاري المائية العذبة القريبة. كما أن البكتريا الكبريتية الموجودة في الماء المتدفق مع المياه الجبلية قد يسرع حدوث الظاهرة أيضاً مما يشير أيضاً إلى أن دراسة زيادة مثل هذه الكائنات سيكون ضرورياً لمعرفة تأثير ظاهرة المجرى.
يتم اليوم تحويل مجرى نهر الأردن لري المناطق العطشى، ومع شركات التعدين التي تضخ المياه خارج البحر الميت يبدو أن الطبيعة ستخسر المعركة ضد البشر، ومع ذلك، فإن دمج البحر الميت بالأحمر قد يسبب إشكاليات كبيرة في عدة نواحِ بدلاً من أن يحل المشكلة. مجرد فتح صنبور المياه المتدفقة من البحر الأحمر إلى الميت لا يبدو فكرةً ذكيةً جداً إذ إن هنالك نظاماً بيئياً فريداً من البكتريا والفطريات التي تجاهد للبقاء في بيئات متطرّفة كالبحر الميت وقد تنتمي إلى أشكال الحياة الأولى على الكوكب وتحمل مفتاحاً لفهم نشوء الحياة على الأرض.
عدا عن كل ما ذكرناه فإن البحيرات المغلقة كالبحر الميت تعتبر أماكن مثالية للاكتشافات لغياب المياه والرواسب المتدفقة مما يحفظ سجلّ هذا المكان دون تأثيرات تذكر، الأمر الذي سيتغير لو جاءت مياه إضافية من مصدر بعيد إليه.
هل يحتاج "الميت" إلى إنقاذ؟
قد لا يكون منسوب البحر الميت مهدداً أصلاً كما يصف البعض، فقد أظهر مسح قاعه والحفر عميقاً باتجاه نواة الأرض والذي عاد بنا إلى العصور الجليدية، رسماً لتاريخ التغير المناخي خلال السنوات العشرة آلافٍ الماضية. كلما ازداد المناخ دفئاً كلما انخفض مستوى المياه وقلت الترسبات الجديدة.
أظهرت بعض النتائج الأولية أن البحر الميت كان عرضةً لتغيرات مناخية عنيفة في الماضي وقد كان أخفض بكثير مما هو عليه اليوم، وقد أنقذته العمليات الطبيعية من الجفاف على مر القرون، حيث يؤمن العلماء أنه وعند نقطة ما سيصل البحر إلى توازن طبيعي بين التبخر وكميات المياه القليلة الواصلة مع الينابيع الجوفية ومياه الأمطار والجريانات السطحية. لذلك فمن المستغرب أن يدّعي الناس رغبتهم في إنقاذ "حياة" البحر "الميت".
أخيراً فإن إعادة تأهيل نهر الأردن قد تشكل البديل الأسلم ومفتاح الحفاظ على البحر الميت، بالإضافة إلى تقليل ضخ المياه من البحر إلى المصانع بفرض رسوم إضافية عليها. يمكن تعزيز تحلية المياه لضمان تأمين مياه الشرب دون الحاجة لإنشاء قناة مدمرة. للأسف فقد تسبّب التيارات السياسية والثقافية المؤيّدة لهذه القناة إلى الموافقة على إنشائها أخيراً بصرف النظر عن وجهات نظر المختبرات العلمية ورأيها في الطريقة التي يمكن بواسطتها إنقاذ البحر الميت.
المصادر:
هنا
هنا
(*) ظاهرة فتحات الصرف/البلع sinkhole phenomenon : جيولوجياً هي انخساف في الأرض التي لا صرف سطحياً خارجياً لها، تنتج عنه حفرة تتجمع فيها مياه الأمطار بعد الهطولات الغزيرة، لتصرف في النهاية تحت الأرض. تكثر الظاهرة في المناطق التي تحوي أنواع صخور قابلة للانحلال بالمياه الجوفية المارة عبرها مثل الجبس والحجر الجيري وصخور الكربونات الأخرى. اقرأ المزيد وشاهد بالصور تشكل هذه الظاهرة حول البحر الميت من هنا