وحي القلم، رائعة الرَّافعي الأخيرة.
كتاب >>>> روايات ومقالات
وضع الرَّافعي كتابه هذا في نوعٍ من الخواطر الأدبيّةِ والقصص، منها ما يُطرِبُ ويُفاءِل، لِتحسب أنَّ الشَّمس تشرق من بين كلماتها، تحمِلك بِرقةٍ نحو عالمٍ ورديٍّ تتمنّى لو أنّك تعيشُ فيه أبداً. لتراها بعد ذلك، متضوّرةً مهمومةً تَعصف بِروحكَ عصفاً، حتى تشعر بأنّ العالم كلُّه قد سقطَ على رأسك!
كتب الرَّافعي ما جاء في "وحي القلم" في ظروفٍ متباينةٍ، بين سنتي 1934 و1937. لكلِّ فصلٍ أو مقالةٍ أو قصةٍ في هذه المجموعة المكوّنة من ثلاثة أجزاء، سببٌ أوحى لِقلمه وأملى عليه ما يقولُ من أفكارٍ أو آراءٍ أو ما قد يبدو للقارئِ غُموضاً.
أحاديثٌ مشوّقة بين دَفتي "وحي القلم": قِصصٌ تَجدُ في سردها وأسلوبها، خُلُقَ الكاتب ودينه، شبابهُ وعاطفته، تزَمُتَهُ و وقاره، فكاهتهُ ومرحه، غضبهُ وسخطه، عباراتٌ فنيّة بيانيّة لأفكارٍ وآراءٍ، صاغها بأسلوبهِ وطريقتهِ في أسمى مراتبها، و تحمل في حروفها قوّة الفكر والخيال والإحساس والعاطفة والرأي، يُمكن للقارئ أن يتذوّق من خلال حروفها أدباً قد يبدو للبعضِ غامضاً لا تَخلص له النفس، ولكنّه عند الكثرةِ يمتازُ بذوقٍ بيانيٍ رفيع.
أقام الكاتب بطريقته فيضَ خواطرٍ ومجموعاتٍ قصصية، منها ما قد يكون من مأثورات الأدب والتاريخ القديم يُظهر فيها الجمال بصناعةٍ فنيّةٍ، تريدُ للقارئ أن يستعذب الرواية ويأخذ الحكمة من مقصدها، ومنها ما قد يكون رأياً يحاكي المنطق في العقول، وتجد في روايات أخرى إنشاءَ وإبداعَ الخيال لدى الرَّافعي، وترى الإلهام في أسلوبٍ يُطالعك أنه هنا في جلالٍ وجمال!
ثلاثة أجزاءٍ، تقفُ فيها عند موضوعاتٍ عديدة، عُولجت بقلمٍ عذبٍ تفيض منه العاطفة، فهو قادرٌ على أن يُحزنك ويُغضبك، ويسعده أن يسرُّك ويرضيك. ففي المجموعة الأولى، تجد نَفسكَ مدعواً لمشاركةِ الرَّافعي فرحته بزفاف "وهيبة" ابنته في (عرشُ الورد) *، لِتهبَّ بعدها نَسيمات الربيع الرقيقة في (الربيع الأزرق) *، وتستمع لخطاب الروح في (أيها البحر!) *، ولم ينسَ أن يُخبرنا عن (سُمُوِّ الحب) * و(فلسفة الطائشة) *، ليدهشك لاحقاً في (اللّهب ولا تحترق) *، وغيرها من المواضيع التي اختتمها بـِ (المُشكلة)* بأجزائها الأربعة وفلسفة العلاقة بين الرَّجل والمرأة. "الحبُّ لفظٌ وهميٌ موضوعٌ على أضدادٍ مختلفة: على بركانٍ وروضة، وعلى سماءٍ وأرض، وعلى بكاءٍ وضحك، وعلى همومٍ كثيرةٍ كلها هموم، وعلى أفراحٍ قليلة ليست كلها أفراحاً؛ وهو خداعٌ من النفس يضع كل ذكائه في المحبوب، ويجعلُ كل بلاهته في المُحِب، فلا يكون المحبوب عند مُحبِه إلا شخصًا خيالياً ذا صفةٍ واحدةٍ هي الكمالُ المطلق، فكأنه فوق البشرية في وجودٍ تام الجمال ولا عيب فيه، والناس من بعده موجودون في العيوب والمحاسن. وذلك وهمٌ لا تقوم عليه الحياة ولا تصلح به، فإنما تقومُ الحياة على الروحِ العمليةِ التي تضع في كل شيءٍ معناه الصحيح الثابت؛ فالحبُّ على هذا شيء غير الزواج، وبينهما مثل ما بين الاضطراب والنظام؛ ويجب أن يفهم هذا الحُب على النحو الذي يجعله حبًّا لا غيره، فقد يكون أقوى حُبٍ بين اثنين إذا تحابَّا وهو أسخف زواج بينهما إذا تزوجا".
أما المجموعة الثانية، فقد ابتدأها بـ (الإشراق الإلهي وفلسفة الإسلام) * والتي تضمنت أيضاً (حقيقة المسلم) * و (وحي الهجرة) * وغيرها من المواضيع والقصص في عصر الرسول "مُحمد"، ليطلعنا على الإسلام وفلسفته، ويخبرنا عن الوجود الروحي والحالة العقلية التي جاء بها بأسلوب بليغٍ واضح.
"والدينُ حريةُ القيدِ لا حُرية الحرية؛
فأنت بعد أن تقيد رذائلك وضَرَاوتك وشرَّك وحيوانيتكَ،
أنتَ من بعد هذا حرٌّ ما وسعتكَ الأرضُ والسماءُ والفكر؛
لأنَّك من بعدِ هذا مُكملٌ للإنسانية،
مستقيمٌ على طريقتها؛"
ويختتمُ هذه المجموعة بسلسلة روايات (أحاديث الباشا) * الذي أخبرنا عنه بأنه: "داهيةٌ من دهاةِ السياسة المصرية، يلتوي مرةً في يدها التواءَ الحبل، ويستوي في يدها تارةً استواءَ السيف".
بالإضافةِ لِسلسلة روايات "المجنون" *، وهو شابٌ من الأذكياء، كان قد انتهى إلى مدرسة المُعلمين الأوليَّة، ثمّ أصابه الجنون فتركها.
وما يكادُ القارئ يفرغُ من مجموعة الرَّافعي الثانية، حتى تتوقَ نفسه للمزيدِ من "وحي القلم"، ليأتي إليه الجزء الثالث ببحثٍ أنشأهُ الرَّافعي عن (السموِ الروحي الأعظم والجمال الفني في البلاغة النبوية) *، ومواضيع أخرى كتبها في مناسبات عديدة كـَ (اللغة والدين والعادات باعتبارها من مقوّمات الاستقلال) *، التي أنشأها لمسابقةٍ أدبية عامة، فيقول فيها:
"وما ذُلَّت لغةٌ شعبٌ إلا ذُلَّ، ولا انحطت إلا كان أمرُه في ذهابٍ وإدبار".
ولم ينسَ أن يتحدثَ عن (الأدب والأديب) * وسرِّ النبوغ في الأدب، فأفردَ عناوينَ خاصة للشعر والفلاسفة. وخصص بعضاً منها ليُبدي رأيه ببعض شعراء الأمة وأعمالهم أمثال: حافظ ابراهيم فيقول الرَّافعي: "رحم الله شاعراً كان أصفى من الغمام، وكان شعره كأنه البرق والرعد".
ويقول في أحمد شوقي: "الاسم الذي كان في الأدب كالشمس من المشرق، متى طَلعَت في كل موضع. ومتى ذُكر في بلدٍ من بلاد العالم العربي اتسع معنى اسمه، فدلَّ على مصر كلها كأنّما قيلَ النيل أو الهرم أو القاهرة".
" وحيُ القلم"، مجموعةٌ غنيّة يَصعُب أن توصف ببضع مفردات، أو أن نفرد لها حديثاً دقيقاً في بضع سطور، إلاّ أنّ أقلّ ما يمكن أن يقال عنها وكما وصفها محمد سعيد العريان: "فيه النَّفحة الأخيرة من أنفاسه، والنَّبضة الأخيرة من قلبه، والومضة الأخيرة من وجدانه".
"وحيُ القلم" لمن أراد أن يزداد بالرَّافعي معرفةً حقَّة!
-----------------------------------
ملاحظة:
*كل ما تمّ تمييزه بها، دلالة عن العنوان الذي ورد في أحد أجزاء (وحي القلم).
_معلومات الكتاب:
الكتاب: وحي القلم.
تأليف: مصطفى صادق الرَّافعي.
الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت-لبنان.
الرقم الدولي: 9953270813
نوعية الكتاب: ورقي، في ثلاثة أجزاء.
عدد الصفحات:
الجزء الأول (357).
الجزء الثاني(372).
الجزء الثالث(413).