هل ترفض نظرية التطور؟ قد تكون طريقة تفكيرك هي السبب!
علم النفس >>>> المنوعات وعلم النفس الحديث
فإذاً لا بد من الاعتراف بأن هناك عوامل أخرى -ليست تجريبية بالضرورة- تؤثر في موقف البعض تجاه هذه النظرية المثيرة للجدل، وقد سبق أن قامت دراساتٌ أخرى باستعراض بعضها ومنها أسبابٌ متعلقة بالتنشئة والنمو، الثقافة والتعلم وكذلك التدين. وتعمد هذه الدراسة لاستكشاف علاقة أكثر أساسية تربط ما بين القدرات الإدراكية والاختلافات في تقبّل هذه النظرية، فكيف ذلك؟
في منتصف القرن الماضي، قام الباحثان في علم النفس ‘Daniel Kahneman’ و ‘Amos Tversky’ بمجموعة من الدراسات التي هدفت لفهم طريقة عمل الوظائف المعرفية في الدماغ و كيفية اتخاذ الافراد للقرارات، و توصلوا لنتائج مذهلة و تعتبر أساسية في علم النفس اليوم، فقد وجدوا أنه يمكن تقسيم القدرات الإدراكية لدى البشر لقسمين أو نظامين أساسيين وفقاً لأسلوب التفكير ومعالجة المعلومات، أًطلق عليهما اسم النظامين 1 و 2 أو الحدسيّ والمنطقيّ.
يتميّز التفكير الحدسي بالاندفاع اللاشعوري السريع والاستجابات البديهية التي تقدّم نتائج مبدئية "كافية" بأسرع ما يمكن، أما التفكير المنطقي فتميزه ردود الفعل الأبطأ المدروسة، والتي تتطلب بذل جهد معرفي لمعالجة المعلومات وتحليلها، وقد دعمت عدّة دراساتٍ نفسية مستقلة هذه النظرية.
إن النظام الأول (الحدسي) ذو أفضليةٍ في معظم الأحيان فهو سريع ولا يتطلب الكثير من الجهد، و يمكن وصفه بأنه غريزي يعتمد على الرغبات و العواطف و المعلومات البسيطة، أما النظام الثاني (التحليلي أو المنطقي)، فإنه يمكّن الفرد من تحليل المعلومات بطريقة منهجية في حال توافر الوقت والدافع المناسبين، مما يؤدي به إلى التوصل إلى نتائج جديدة تتغلب على استجابته الحدسيّة و قرارات مدروسة أو أكثر تمعناً.
تشكّل هذه المعلومات السياق الذي تعتمد عليه الدراسة لفهم العلاقة بين نمطي التفكير وبين تقبّل نظرية التطور، حيث يبدو أن بعض جوانب هذه النظرية لا تتناسب مع النمط الحدسيّ. على ما يبدو، فإنه يوجد ميل غريزي لدى البشر لاستبعاد المعلومات التي تشكل قالباً معرفياً محدوداً كنظرية التطور، التي تصف العمليات البيولوجية و الطبيعية المفهومة و المحدودة التي أدت للتنوع الحيوي على الأرض، و تفضيلهم لبدائل أوسع أخرى تترك المجال مفتوحاً للتفسيرات و القراءات المختلفة. تجدر الإشارة الى أن هذا الميل لتفضيل نمط التفكير الحدسي (النظام المعرفي الأول) مشترك بين جميع البشر، و الفرق لدى أولئك الذين يدعمون نظرية التطور يكمن في قدرتهم على الخوض في التفكير المنطقي الممنهج (النظام المعرفي الثاني) و استبدالهم للمعلومات البدائية بمعلومات أكثر منطقية ناتجة عن عمليات معرفية اعمق و أكثر تحليلاً.
وفيما يخص هذا البحث فهو يهدف إلى قياس الارتباط ما بين عاملين: التفكير التحليلي أو المنطقي، وتأييد نظرية التطور. حيث قام عالم النفس ‘Will Gervias’ بدراسة على مجموعتين كبيرتين من الطلاب الجامعيين في أميركا تم اختيارهم بحيث تعكس توجهاتهم التوجهات العامة لشعب الأميركي وفق احصائياتٍ رسمية، وفقاً لما نشره في مجلة’Cognitive’ العلمية.
اختبر الباحث في كلا المجموعتين صحة الفرضية التالية: "ارتفاع مستوى التفكير التحليلي يتنبأ بزيادة احتمال تأييد الفرد لنظرية التطور"
وذلك عن طريق ملء استبيانات اشتملت على أسئلة عن مدى تأييد نظرية التطور، واختبار يتطلب مهارة التفكير التحليلي، إضافة إلى أسئلة عن التنشئة والتوجه الديني والسياسي للمشاركين بهدف المقارنة. وقد اقترحت النتائج البحثية في كلا المجموعتين أن الجانب الذي أظهر أعلى ارتباط بتأييد نظرية التطور هو التفكير التحليلي أكثر من التنشئة أو التوجه الديني أو السياسي، أي بكلماتٍ أخرى فإن الأفراد الذين يمتلكون مهارة أعلى لنمط التفكير التحليلي أو المنطقي يميلون إلى تأييد نظرية التطور أكثر، وهذا الارتباط بين التفكير التحليلي والموقف من النظرية هو أعلى من ارتباط العوامل الأخرى بها.
تجدر الإشارة إلى أن دراساتٍ سابقة أظهرت نتائج مختلطة عن علاقة تأييد نظرية التطور بالفهم السليم لآليات ومفاهيم النظرية، حيث أظهرت بعض الدراسات عدم وجود أي ارتباط وأظهرت دراساتٌ أخرى ارتباطاً متوسطاً إلى مرتفع. وقد يلعب نمط التفكير التحليلي دوراً في ذلك حيث أنه يساعد على الحصول على فهمٍ أدق للمفاهيم العلمية بشكلٍ عام ومنها نظرية التطور. كما أن دراسة نشرت عام 2015 تشير إلى أنّ ذوي نمط التفكير التحليلي يظهرون مقدرةً أعلى على فهم جوانب نظرية التطور لدى حضورهم محاضراتٍ جامعية عنها.
وأخيراً في الحقيقة، إن الفكر البشري معقد أكثر مما نتصور ولا يتعلق بعاملٍ واحد أو عاملين وإنما تتعدد المؤثرات التي تتدخل في اتخاذ قراراتنا المصيرية أو مواقفنا المتعلقة بالعلم. وقد قامت هذه الدراسة بتسليط الضوء على جانبٍ من تأثر المواقف العلمية بأنماط التفكير. حيث رأينا أنه في كثير من الأحيان لا يكون دعمك لقضية ما معتمداً على قاعدة علمية صلبة. فالتطور مثلاً، قد لا يكون جدلياً لغايات علمية بحتة وذلك بفضل الأدلة والبراهين التي تثبته، ولكن الحقيقة الأكثر وضوحاً هو أن السبب في اختلاف آرائنا يأتي من التنوع والاختلاف في بيئاتنا وسيكولوجيتنا. ومن هنا قد يصبح بالإمكان التعرف على كثيرٍ من التطبيقات العملية التي توضح أبعاداً أكثر لأنماط التفكير والتعامل مع البيئات الاجتماعية المختلفة.
المصدر: هنا
البحث الأصلي: هنا