الفلامنكو... النَّشأة والتَّطوّر وأساسات الموسيقى الأندلسيَّة (الجزء الأول)
الموسيقا >>>> سلسلة الرقص
لَقَد تمَّ التَّنازعُ على أصلِ الفلامنكو بشكلٍ كَبيرٍ، حتّى بعدَ تَطوّره. وتُعتبَر أشكالُهُ الأدبيَّةِ والمُوسيقيَّةِ وأنماطُهُ المُنتَقِلة شفويَّاً مثل الأنماط الأدائيَّة مواضيعَ أدبٍ ينمو باستمرارٍ بمُساهمة الشعراء، الكُتَّاب، الرَّحَّالة، الموسيقيين، الرَّاقصِين، الفلكلوريين والعازفِين، وفي الوقت الحالي بمساهمةِ الأنتروبولوجيين واختصاصيي عِلم الاجتماع. وَقَد لَعِبَ الغجَرُ دوراً كبيراً في نشرِهِ ولكنَّهم لم يَكونُوا مُكتشفِيه الوحيدين.
إنَّ الشكوكَ التي دارَت حولَ أصلِ الفلامنكو كثيرةٌ ولكنَّها مِنَ النَّاحية اللغويَّة أكثر منها مِن نَاحيةِ العزفِ الموسيقيّ، وفقاً لـ F. Pedrell فإنَّ غِناءَ الفلامنكو قَد جُلِبَ إلى إسبانيا عن طريق الفلمنكيين المهاجرين خلال حكم تشارلز الخامس المَعروف أيضاً بتشارلز الأوَّل الذي حَكمَ إسبانيا بينَ عامي 1516 و1556، أمَّا G. Barrow" " فاعتقد أنَّ الفلامنكو هو وصفٌ للغجَرِ الواصلينَ إلى إسبانيا عن طريقِ فلاندرز (منطقةٌ في الجزءِ الجنوبي مِن البلادِ المُنخفِضةِ وهي مقسَّمةٌ حالياً بينَ بلجيكا وفرنسا وهولندا) وخصوصاً عندَ استخدامها لوصفِ بشرتِهِم الغامقة.
شَعَرَ "Fernandez de Castillejo" أنَّ المُصطلحَ كانَ وصفاً للممارسات اللصوصيَّة للفلامنكيين المتملِّقين الذين سلَّمَهم تشارلز الأوَّل مراكزَ مسؤوليَّة، R Sallas أنَّ المُصطلحَ كانَ يُطلقُ في الأصلِ على الرِّجالِ الذين كانوا يقودونَ حياةً شَرِسةً وعدوانيَّةً مِمَّن قاتلوا في فترةِ حُكمِ الفلاندرز، واستخدمَ فيما بَعد لوصفِ الحياةِ الغريبةِ والبراعةِ لَدَى الغجَرِ.
أَرجَعَF. de Onis" " أصلَ الفلامنكو إلى الملابسِ المُبالغِ بِها التي كانَ يرتديها الفلامنكيون المتملِّقون، ناسباً ذلك إلى الخصائص المُميَّزة لها وللأخلاقِ الغجَريَّة، أمَّا "F. Rodriguez Marin" رأى في المُصطلَحِ عنصرَ سُخرية حيثُ إنَّهُ نُسب إلى أولئك الذين يُغنون بوضعيةٍ ثابتةٍ ومُنتصبَةٍ مؤدِّين الفلامنكو.
هناك عدَّةُ نظرياتٍ أُخرى، ومنها اقتراح أنَّ الـ "Cante flamenco" كانَ عِبارةً عن أغانٍ عربيَّةٍ نشأت في شمالِ إفريقيا وتمَّ تبنِّيها فيما بَعد مِن قِبَل الفلامنكيين الآتين مِن الأراضي المُنخفضةِ، أو مِن قِبَل الفلامنكيين الغجَر الواصلينَ إلى إسبانيا مع الفُرَق البوهيميَّة.
أمَّا مِن الجانب اللغويّ فَقَد فَهِمَ ""B. Infante مُصطلح الفلامنكو أنَّه فسادٌ أو اشتقاقٌ عن الفيلاجمينجو "Felagmengu" العربي أي ما يُشبِهُ معنى الفلَّاح القشتالي الهارب ""Castillian Campesion hudo، أمَّا P. Garcia Barriuso" " فقد اعتقدَ أنَّهُ تمَّ اشتقاقُ هذا المُصطلَح مِن لفظةِ fel_lah_mengu" "، أو كما رأى L.A. de Vega"" أنَّها مُشتقةٌ مِن كلمَةِ ""Felhikum أو Felahmen ikum"" ومعناهما العُمال، وأغاني العمال.
قامَ ""Garcia Matos بوصلِ الكلمة بالمفهومِ الألماني "Flammen" (ملتهب، صارخ أو متفجر)، والتي يُمكِنُ أن تكونَ قَد دخلَت إسبانيا مِن الشمال. وبالعمومِ فإنَّ مُصطلحَ "فلامنكو" يظهرُ أنَّهُ مُرتبطٌ بطريقةِ حياةٍ تتضمَّنُ الكرمَ والاسترسالَ بالمرحِ والصَّخَبِ والتَّهور.
على الرغم مِن التَّخميناتِ المُتنوِّعة المُتعلِّقة بأصلِ الفلامنكو، فإنَّ الإجماعَ يتحدَّدُ في التَّاريخ المبكِّر وتطوُرِ غناءِ الفلامنكو ووصولِهِ إلى الأندلس وبالتَّحديدِ بينَ الغجرِ الذين أسبغوا عليه صفةً مميَّزةً تظهر متجذِّرةً في فقرِهِم، وتَعكِسُ المِحن الحزينة المتعلِّقة بوجودِهم. كما أعطَت هذه الصِّفة حماسةً للتَّعابيرِ الشعريَّة والمُوسيقيَّة التي اشتُهرَت حوالي القرن 18، وأكثر المراكز البارزة لهذا الفنّ كانَت "Triana" (حي الغجر في إشبيلية)، و Cádiz""، و Jerez de la Frontera"" ومدنٍ أُخرى ذات موانئ، ولاحقاً أصبحَت أغاني ورقصَاتِ الغجرِ مشهورةً في الولائِم العامَّةِ وفي الحانَات.
بعدَ أن رَفضَت الطَّبقة الرَّاقية هذه الموسيقى، بَقِي الغجرُ وشعبُ الأريافِ هُم مُؤدُّونها الأساسيون، ولكن على الرّغم مِن ذلكَ فإنَّ المقاطعَ الشِّعريَّة "Coplas" وألحانَ الغجرِ تمَّ اقتباسُهَا مِن الكُتَّابِ المسرحيين لمسرحياتٍ ذات مشهدٍ واحدٍ، ومُلحّني "Tonadilla" ؛ وهي نمطٌ مسرحيٌّ اشتُهِرَ في القرن الثامن عشر.
حوالي عام 1850 أصبحَ غِناءُ الفلامنكو أحدَ التَّسالي المشهورة، حيثُ كانَ يُغنَّى في حَاناتِ الغِناءِ Cafés cantantes"" المُقامَة في مدنٍ مثل: كاديز، جيريز، ملقة وإشبيلية وفي مدنٍ وقرى أُخرى في الأندلس.
بينما سَيطَرَ نمطَ أغاني الـ Hondo"" (العميقة، الجدّيَّة)، تمَّ التَّعريفُ بأغانٍ شعبيَّةٍ لإرضَاءِ الجمهورِ المُستَمِرِّ بالنّمو، وتَمَخّض عن هذه المرحلة أداءات احترافيَّة.
في بدايةِ القرن العشرين دخل فنُّ الفلامنكو مرحلةً مِن الانحدار وتحديداً عندَ ظهورِ أوَّلِ أوبريهات للفلامنكو حوالي عام 1920 في الوقت الذي أصبحَت فيه الموسيقى متكلِّفةً ودعائيَّةً، وحتَّى أنَّ محاولات "Manuel de Falla" وآخرين غيره لإعادةِ إحياء التَّقاليد في المسابقةِ الشهيرةِ في غرناطة عام 1922 لم تُحقِّق نجاحاً في مُحاربَةِ هذه المرحلة مِن فقدانِ الأهميَّة والتي استمرَّت خلالَ الحربِ الأهليَّةِ في إسبانيا (1936-1939) والفترة اللَّاحقة لها.
ومنذُ ذلكَ الوقتِ أصبحَت ذخيرة الفلامنكو "Aflamencada" (غجرية) مِن قِبَلِ المؤدِّين على الراديو وفي الأفلام، بينما أنَّهُ حتَّى أشهر الفنانين لم يستطيعوا أن يَحصَلُوا على قوتِ يومِهِم، وعلى الرّغم مِن المجهودِ المَبذولِ من قِبَل Falla"" فإنَّ مركزَ رئاسةِ علمِ الفلامنكو في جيريز لم يتم تأسيسَهُ حتّى عام 1957، وكانَ قَد سبقَ ذلك مهرجان ومسابقة الأغنية المُعاد للمرَّةِ الأولى في قرطبة عام 1956.
كانَت هذه الأحداثُ مَعلَماً لنهضةٍ عادلَت حقبةَ حانَاتِ الغِناءِ، وكما تمَّ فيها إنتاجُ أداءاتٍ جديدةٍ شبيهة بتلك الأداءات في الحُقَبِ السَّابقة.
ننتقل إلى أساسات الموسيقى الأندلسية، فلطالما كانت الأندلس بوتقةً تذوبُ فيها الأنظمةَ الموسيقيَّة التي جُلِبَت مِن الزَّاوية البَعيدة للبحرِ المتوسّطِ مِن قِبَلِ المستوطنينَ اليونانيين، والقرطاجيين، والرومان والبيزنطيين.
في مملكةِ القوط الغربيين في إسبانيا، كانت إشبيليةُ أحدَ المراكز الرَّئيسيَّة للغناء الإسباني القوطي Hispano_Gothic chant""، والذي أصبحَ يُعرَفُ لاحقاً باسمِ ""Mozarabic chant (غناء المستعربين) والذي ظلَّ مُنتَشِرَاً حتّى القرون الأولى لسيطرَةِ الدَّولةِ الإسلاميَّة، وربَّما لم يَضِف الغزو الإسلامي في بدايات القرن الثامن في الحال وإلى حدٍّ كبيرٍ أي شيء للتَّقاليدِ المُوسيقيَّة، ومع وصولِ الموسيقيّ البغداديّ زرياب، والذي أسَّسَ مدرسةَ غناء في قرطبة خلالَ عَهد عبد الرحمن الثاني (822-852) أصبحَت الموسيقى الفَارسيَّة ذات نفوذ، وفي القرن العاشر أي خلالَ حُكمِ الأمويينَ، بدأ العربُ بزَرعِ تقليدٍ موسيقيٍّ أصبحَ يُنافِسُ فيمَا بَعد تقاليدِ خُلفاء الشرق في دمشقَ وبغداد.
تَشَاركَ الشُّعراء المسلمون واليهودُ روعةَ المجالس الأندلسيَّة حيثُ لحَّنُوا الكثيرَ مِن قصائدهِم على ألحانٍ معروفَةٍ، ومع استعادةِ الإسبان للبلادِ وحتَّى القرن الثالث عشر فإنَّ تأثيرَ المسيحيَّة جَلَب معهُ النِّظام الموسيقيّ الجورجي والذي لا شكَّ فيه انصهرَ مع الأنماطِ الموسيقيَّة للسّكان الأصليين (ولكن مِن الصَّعب مَعرِفةُ المَدى الذي لَعبَت فيه موسيقى الطُّقوس اليهوديَّة دوراً مُهمَّاً في المنطقة). وكما أنَّ اللهجةَ القشتاليَّة كانَت تُحرِزُ تَقدُّماً في جنوب إسبانيا، فإنَّ الكثيرَ مِن الموسيقى المشهورة وثُمَّ الموسيقى الرَّائجة قَد تمَّ تحويلُهَا للهجة القشتاليَّة، وبحلولِ عام 1492 ومع بدءِ الهيمنة الكاثوليكيَّة على إسبانيا والتي ساعدَت في طَردِ المسلمينَ واليهود، كانَ للموسيقى الأندلسيَّة نمطٌ تأليفيٌّ ذو خصائص تُميِّزُها عن مناطقٍ أخرى في شبه الجزيرة الأيبيريَّة.
ويبقى السُّؤال فيما إذا كانَ الغجرُ بعد وصولِهِم لإسبانيا في مُنتصفِ القرنِ الخامسِ عشر قَد جَلبُوا معهم تقليداً موسيقيَّاً جديداً أو أنَّهم ببساطةٍ قامُوا بتغذيةِ تقليدِهِم الخاصّ مِن هذه التَّأليفات. ويَعتقِدُ بعضُ العلمَاءِ أنَّ الغجرَقد جَلَبُوا نمطَ الفلامنكو مِن هندوستان، وهي منطقةُ أصلِهِم. مثل هذه البراهين نَشَأت مِن التَّشابهِ الكبيرِ بينَ غِنَاءِ الفلامنكو و الـ Ragas"" الهنديَّة ووجودِ فوارقِ بسيطةٍ جداً بينَ الرَّقصَاتِ. وهناك براهينٌ مُشَابهةٌ أشارَت إلى تأثيرٍ عربيٍّ كبيرٍ في شروطِ الأداء والنَّظرياتِ الشَّكليَّة.
نترككم مع مشاهدةٍ ممتعَةٍ لبعضٍ من المقاطع، وبإمكانكم قراءة الجزء الثاني من المقال هنا :
المصدر:
The New Grove Dictionary of Music and Musicians