القرابين البشرية في العالم القديم (الجزء الثاني) ... هل حقاً ضحى القرطاجيون القدماء بأطفالهم من أجل الآلهة؟؟؟
التاريخ وعلم الآثار >>>> تحقيقات ووقائع تاريخية
ولكن هل وصل بهم الأمر إلى التضحية بأنفسهم أو حتى أبنائهم لإرضاء آلهتهم تلك؟ ما كانت دوافعهم حينها؟ وهل لنا في يومنا هذا من إيجاد حجة لتبرير تلك الممارسات؟ للتعرف على ذلك تابعوا الجزء الثاني من مقالنا...
إن دولة قرطاج القديمة كانت عبارة عن مستعمرةٍ فينيقيةٍ، تقع في ما يعرف اليوم بتونس، وقد امتد تاريخها ما بين عامي 800 و 146 قبل الميلاد حيث تم تدميرها على يد الرومان. وحسب الروايات التاريخية والأدلة الملموسة والتي ذكرناها في مقالنا السابق هنا ، فقد كان يتم تقديم الأطفال، ذكوراً كانوا أم إناثاً وغالباً في الأسابيع الأولى من حياتهم، كقرابين بشرية من قبل القرطاجيين القدماء في مكان يعرف بـ "توفة". كما كانت تتم ممارسة هذه العادة من قبل دولٍ مجاورةٍ أيضاً من مستعمراتٍ فينيقيةٍ أخرى في صقلية وساردينيا ومالطا.
إن هذه القرابين المهداة من آباء الأطفال إلى الآلهة، نقشت على ألواحٍ حجريةٍ فوق رفات جثامين الأطفال المحروقة، لتنتهي بعبارة "إن الآلهة قد سمعت صوتي وباركت لي".
غالباً ما تحتاج العلوم الإنسانية الحديثة إلى مواضيع جديدة لتكتب عنها، مما جعل التاريخ صناعةً محليةً هدفها تعرية وفضح الأحداث التاريخية واستبدالها بشيءٍ جديدٍ، كالقول مثلاً بأن دافينشي كان شاذاً جنسياً، أو أن شكسبير كان امرأةً، وأن ريتشارد الثالث كان محبوباً من الجميع ... الخ، وهكذا بدأ محرفو التاريخ فجأةً يصرون على أن "توفة" كانت ببساطة مقبرة لأطفال. وقد تم استبعاد عشرين ألف جرة مدفونة في توفة والتي كشفت عنها أعمال الحفر والتنقيب من قبل علماء الآثار، لاعتبارها كانت هدراً كبيراً جداً للجهد والوقت.
لقد ملئت رؤوس تلك الشعوب القديمة بالمخاوف الخرافية، فقد كانوا يعتقدون بأنهم أهملوا الشرف الذي منحته إياهم الآلهة وأسسه لهم آباؤهم. وفي حماسهم لغفران خطيئتهم تلك، قاموا باختيار مائتي طفلٍ من أنبل العائلات وتقديمهم قرابين بشرية على الملأ. في حين قام آخرون فيما لا يقل عن 300 شخص، دفعهم الاشتباه بكونهم مذنبين، إلى التضحية بأنفسهم طواعيةُ.
وأصبح ذلك الإجماع الشعبي على تلك الخرافات شائعاً جداً، ولكن وبعد عدة عقود جاء الوقت لفضح زيف أولئك المحرفون للتاريخ. حيث تقر وثيقةُ حديثةُ بوجود دليلٍ "دامغٍ" يؤكد قيام القرطاجيين القدماء بتنفيذ تلك الممارسة التي يقوم بها الآباء بالتضحية بأطفالهم الصغار ضمن طقوسٍ خاصةٍ لتقديمهم إلى الآلهة، تماماً كما روى ذلك اليونان والرومان. وقد ذهب بهم الأمر للقول أن ممارسة التضحية بالأطفال قد تكون السبب الرئيسي وراء وجود الحضارة في المقام الأول.
وقد قال المؤلف المشارك الدكتور جوزفين كوين من جامعة أوكسفورد، كلية الفن الكلاسيكي: "يتضح بشكل متزايد بأن القصص التي رويت عن قيام القرطاجيين بالتضحية بأطفالهم حقيقية". وهذا ما رواه عنهم الرومان واليونان، بالإضافة إلى كونه جزءاً معروفاً من التاريخ القرطاجي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ولكن وفي القرن العشرين، أخذت نظرة الناس إلى هذا الموضوع تتغير بشكلٍ متزايدٍ، فقد رأوا أن ما قاله اليونان والرومان عن القرطاجيين كان مجردَ دعايةٍ عنصريةٍ تصبُّ في صالحهم ضد عدوهم السياسي القرطاجيين، وأنه كان يجب إنقاذ القرطاجيين من هذا الافتراء الفظيع.
ما نقوله الآن عن أن الأدلة التاريخية والأثرية، والأدبية، والوثائقية التي تتحدث عن ممارسة عادة التضحية بالأطفال، كلها أدلة دامغة، وبدلاً من محاولة تفنيدها، يتوجب علينا أن نفهمها. لقد حاول الناس التحجج بأن تلك المواقع الأثرية التي تم اكتشافها كانت مجرد مقابر للأطفال حديثي الولادة أو أولئك الذين قضوا حتفهم وهم في أعمارٍ صغيرةٍ، ولكن وبصرف النظر عن حقيقة أن طفلاً ضعيفاً أو مريضاً أو طفلاً ميتاً، يعتبر هديةً شحيحةً تقدم للآلهة، وعن حقيقة أنه عُثر على بقايا بعض الحيوانات في ذات المواقع تلك وتمت معاملتها بالطريقة ذاتها التي تمت بها معاملة أولئك الأطفال، بصرف النظر عن كل ذلك نجد أنه من الصعب أن نتصور كيف يمكن اعتبار موت طفل هو إجابة لصلاةٍ ما.
إنه لمن الصعوبة بمكان بالنسبة لنا اليوم أن نحاول استعادة دوافع أولئك الناس لقيامهم بتلك الممارسة، أو السبب وراء قبول الآباء بها، ولكنه يبقى أمراً يستحق المحاولة. لربما يكون ذلك الفعل أمراً نابعاً من عقيدةٍ دينيةٍ عميقةٍ، أو شعوراً بالاعتقاد بأن الخير الذي يجلبه التضحية بحياة طفلٍ سيعم على الأسرة أو المجتمع ككل، ويفوق حياة ذلك الطفل. يجب علينا أن لا ننسى المعدل المرتفع لوفيات الأطفال، وقد تكون فكرة عدم تعلق الآباء بأطفالهم آنذاك فكرةً معقولة، فقد لا يشهدون حياة طفلهم حتى في عامه الأول.
إذاً هل كانت الوثائق التي رواها الرومان واليونان بدافع الكراهية للقرطاجيين كما تم زعمه؟ كلا، هذا ما يجيبه كوين، فالجماعات الحديثة اليوم تطبق وجهة نظرها الخاصة والمنحازة: "نحن ننظر إلى تلك الممارسة على أنها افتراء، فنحن ننظر إليها من منظورنا الخاص، ولكن الناس ينظرون إليها بشكل مختلف منذ 2500 سنة ماضية. في الحقيقة فإن اليونان والرومان الذين عاصروا القرطاجيين آنذاك يميلون إلى وصف تلك الممارسة بالشاذة والغريبة تاريخياً، فهم لم يكونوا في الحقيقة ينتقدون تلك الممارسة. ولا يجب علينا أن نتصور بأن الشعوب القديمة كانت تفكر بنفس الطريقة التي نفكر نحن بها اليوم، وبأنهم كانوا يفزعون من ذات الأمور التي نفزع نحن منها اليوم."
بدأت حركة الرد العنيف ضد فكرة قيام القرطاجيين القدماء بالتضحية بأطفالهم، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وقادها باحثون من تونس وايطاليا، وهي البلدان ذاتها التي عثر فيها على توفة.
كانت قرطاج فيما مضى أكبر بكثيرٍ من أثينا، كما كانت لقرونٍ عديدةٍ أكثر أهمية من روما أيضاً، إلا أنها اليوم ليست أكثر من مدينةٍ منسيةٍ.
يقول كوين: "وإذا تقبلنا بشكل أو بآخر فكرة أن التضحية بالأطفال قد حدثت بالفعل، فهذا يفسر سبب تأسيس هذه المستعمرة في المقام الأول". ويضيف: "لربما كان السبب وراء مغادرة الشعوب التي أسست لدولة قرطاج والدول المجاورة لها من أوطانها الأصلية – موطن الفينيقيين وما يعرف اليوم بلبنان ـ كان بسبب أن الشعوب هناك، أي في موطن الفينيقيين، لم يستطيعوا تقبل فكرة تلك الممارسة الدينية وغير الطبيعية".
إن فكرة التخلي عن الأبناء كانت فكرةً شائعةً لدى الشعوب القديمة، وقد وجدت ممارسة التضحية البشرية في العديد من المجتمعات على مر العصور، غير أن التضحية بالأطفال على وجه الخصوص لم تكن شائعةً. ولربما كان القرطاجيون اللاحقون أشبه بالآباء الذين هاجروا إلى بليموث في رحلة دينية (وهي الهجرة التي قام بها المستوطنون الأوائل إلى مدينة بليموث في ماساتشوستس في الولايات المتحدة) فقد كانوا شديدي الحماس من أجل تسخير أنفسهم للآلهة، حيث أنه لم يعد مرحباً بهم في ديارهم. فإن رفضنا فكرة التضحية بالأطفال كقرابين بشرية، تحجبنا عن رؤية الصورة الأكبر لسبب ممارستها.
المصدر:
هنا