التفاصيل المتعلقة بعملية إكتشاف الأمواج الثقالية.
الفيزياء والفلك >>>> علم الفلك
والآن وللمرة الأولى تمكَّن العلماء المنضوُون في التعاون العلمي لمشروع LIGO وبمساهمةٍ بارزةٍ من الباحثين في معهد MIT وجامعة كاليفورنيا التقنيّة Caltech من رصد اهتزازات الأمواج الثقالية "بشكلٍ مباشر" بأدوات وأجهزة على سطح الأرض. وبذلك، أثبتوا وبقوةٍ صحة نظرية أينشتاين في النسبية العامة، وشقُّوا طريقًا جديدةً للنظر نحو الكون.
وهناك ما هو أهم من ذلك. فقد تمكن العلماء من تفسير رموز إشارة الأمواج الثقالية، وحدَّدوا مصدرها. ووفقًا لحسابتهم فإن هذه الأمواج الثقالية نتجت عن اصطدام ثقبين أسودين هائلي الحجم، ويبعدان 1.3 بليون سنةٍ ضوئية عنا، وهو حدثٌ جلل لم يتم رصده قبل الآن.
وتمكن الباحثون من اكتشاف الإشارة بوساطة مرصد الأمواج الثقالية بمقياس التداخل الليزري Laser Interferometer Gravitational-Wave Observatory والمعروف اختصارًا باسم LIGO، وهو زوجٌ من الكواشف المبنيان بعنايةٍ للكشف عن الاهتزازات بالغة الضآلة الناجمة عن مرور الأمواج الثقالية. وحالما تلقَّى الباحثون الإشارة حوّلوها إلى أمواجٍ صوتية واستمعوا إلى صوت الثقبين الأسودين اللذَين يدوران حول بعضهما البعض، ثم اندمجا في ثقبٍ أسود أكبر.
يشرح الأستاذ المساعد في الفيزياء ماثيو إيفانز Matthew Evans من معهد MIT بقوله: "إننا نسمع همهمتهم في الليل، نستلم الإشارة الواصلة إلى الأرض، ونصلها إلى مكبرات الصوت، ونقدر على سماعها وهي تذوي. كان لدينا شعور لا يُوصف. فأنت تستمع الآن لهذه الأصوات التي كانت من قبل ضربًا من الخيال" .
أجرى الفريق تحليلاتٍ معمَّقةٍ لهذا الأرصاد، فصار أقدر على تحديد الميلي ثانية الأخير قُبيل اصطدام الثقبين الأسودين. وحددوا أنهما كانا بكتلةٍ تبلغ 30 ضعف كتلة الشمس، وكانا يدوران حول بعضهما البعض بسرعةٍ قريبةٍ من سرعة الضوء قبل أن ينصهرا في ثقبٍ أسودَ واحدٍ بعد الاصطدام، ما أدى إلى انطلاق كميةٍ هائلةٍ من الطاقة تعادل 3 مقادير من كتلة الشمس، بعد تحويلها إلى طاقةٍ وفق معادلة أينشتاين E=mc2، على شكل أمواجٍ ثقالية.
حيث أنَّ الجزء الأكبر من هذه الطاقة كان قد أنطلق خلال أعشار الثانية الأولى من الاصطدام، بحسب ما أوضح بيتر فريتشل Peter Fritschel رئيس فريق العلماء في كاشف المرصد LIGO، وهو الباحث الرئيس في معهد كافلي Kavli للفيزياء الفلكية وأبحاث الفضاء التابع لمعهد MIT.
ويُضيف بأنه وخلال زمنٍ قصيرٍ وصلت الاستطاعة في الأمواج الثقالية إلى حدٍ يفوق استطاعة كامل الضوء المرئي في الكون بأسره.
بعد ذلك انتشرت هذه التموجات عبر أرجاء الكون، مغطيةً ومشوِّهةً لنسيج "الزمان-المكان" الذي تجتازه قبل أن تصل الأرض بزمنٍ يزيد عن بليون سنةٍ تاركةً أثرًا باهتًا عليها يُدَلِّلُ على أصله العنيف.
وعلى الرغم من ذلك فإنها إشارةٌ مذهلةٌ، ظلَّ العديد من العلماء يترقبونها منذ عُقدت النية على بناء المرصد LIGO. فهي تُعرِّفنا على ديناميكية الأجرام الواقعة تحت تأثير الحقول الثقالية بأشد ما يُمكن تصوُّرها، وهو المجال الذي كانت جاذبية نيوتن عاجزةً أمامه، فكان المرء بحاجةٍ لاستثمار معادلات الحقل اللاخطية التي وضعها أينشتاين إلى أقصى طاقتها ليتمكن من شرح هذه الظاهرة. فرحة النجاح الأكبر كان في أن هذه الأمواج موصوفةٌ بشكلٍ دقيقٍ بحلول هذه المعادلات. حيث رسّخ ذلك من صِدقية أينشتاين في نظامٍ لم تُختبر فيه نظريته من قبل أبدًا .
-الروعة في التراصف:
ورد أول دليلٍ "غير مباشر" على وجود الأمواج الثقالية في العام 1974 عندما اكتشف الفيزيائيان رسل هالس Russell Hulse وجوزيف تايلور Joseph Taylor زوجًا من النجوم النيوترونية يبعد 21 ألف سنةٍ ضوئيةٍ عن الأرض ويتحرك فيه النجمان بنمطٍ غريب. فاستنتجا أنهما – أي النجمين – يدوران حول بعضهما البعض بطريقةٍ تُحتّم عليهما فقدان الطاقة على شكل أمواجٍ ثقالية. وعلى اكتشافهما هذا نال الباحثان جائزة نوبل في الفيزياء عام 1993.
أما الآن فقد تمكن المرصد LIGO من الحصول على أوَّلِ رصدٍ "مباشرٍ" للأمواج الثقالية بأدواتٍ موجودةٍ على كوكب الأرض. وقد التقط الباحثون الإشارة في الساعة 5:51 من صباح يوم 14 من أيلول/سبتمبر من العام 2015 وفق التوقيت الشرقي للولايات المتحدة، بالاستفادة من مقياسي التداخل التوأمين اللذين يُشكلان مرصد LIGO والموجود أولهما في ليفينغستون في ولاية لويزيانا، وثانيهما في هانفورد في ولاية واشنطن.
يمتد كل مقياس تداخل على مسافة 4 كيلومترات ويستخدم شعاع ليزر ينقسم إلى حزمتين تنتقل كل حزمة جيئةً وذهابًا في كل ذراعٍ من أذرع المقياس، وتنعكس تلك الحزمتان ما بين مرايا مضبوطة بدقةٍ فائقة. تُراقب كل حزمةٍ المسافة بين هاتين المرآتين، التي – أي المسافة – ستتغير بحسب ما تنص عليه نظرية أينشتاين بقدرٍ بالغ الضآلة إذا ما مرَّت موجةٌ ثقاليةٌ عبر الجهاز.
يمكن تصوُّر الأمر كما لو أن حَجَرةً سقطت على سطح بركة ماء، وبدأت الأمواج بالانتشار. كذلك فإن حدثًا فلكيًا ضخمًا سوف يُسبب أمواجًا ثقاليةً تشوِّه نسيج "الزمان-المكان" حولها، وينتقل هذا الاضطراب منتشرًا حتى يصل إلينا على الأرض، على بعد مئات الملايين من السنوات الضوئية.
في آذار/مارس الماضي أكمل الباحثون ترقيةً أساسيةً على مقاييس التداخل المعروفة باسم Advanced LIGO ما زاد من حساسية التجهيزات، الأمر الذي سمح للباحثين بالكشف عن التغيرات في طول الذراع التي لا تتجاوز جزءًا من عشرة آلاف جزء من قطر البروتون، وهذا يُكافئ قياسنا للمسافة بين الأرض وأحد النجوم القريبة بمعدل خطأ لا يتجاوز ثخن شعرة الإنسان، وهو قياس صعبٌ للغاية. لدرجة أن حتى أينشتاين لم يكن يتوقع أنه ممكن. (للتعرف أكثر على التحسينات التي تمت على التجربة LIGO، في هذا المقال هنا )
وبالرغم من كل ذلك وصلت الإشارة. وباستخدام معادلات أينشتاين تمكن الفريق من تحليل الإشارة الواردة وحدَّدوا أنها صادرةٌ عن تصادم ثقبين أسودين فائقي الكتلة.
لقد كان تحديًا عظيمًا للعلماء أن يُبرهنوا لأنفسهم أولًا ولبقية الباحثين في العالم تاليًا أن هذه الإشارات الأولية التي تلقَوها لم تكن مجرد صدفةٍ أو ضجيجًا عشوائيًا. لكن الطبيعة كانت كريمةً وسخيةً إلى أبعد الحدود، بأن زودتنا بإشارةٍ على هذا القدر من الشدَّة وسهولة الفهم، والأروع أنها تتوافق مع نظرية آينشتاين.
مثَّل هذا الاكتشاف الجديد للأمواج الثقالية بالنسبة للمئات من العلماء المشاركين في مشروع LIGO علامةً لا تُتوِّج عقودًا طويلةً من البحث وحسب، بل إنها تفتح نافذة جديدة للنظر نحو للكون.
وهذا يُدشِّن عصرًا في الفيزياء الفلكية جديدًا كليًا. فنحن دائمًا ما كنّا ننظر للسماء بوساطة المقاريب (التلسكوبات) ونبحث عن الإشعاعات الكهرمغناطيسية من قبيل الضوء والأمواج الراديوية أو الأشعة السينية. أما الآن فإن الأمواج الثقالية أصبحت أداةٌ جديدةٌ تمامًا يمكننا بها فهم الكون من حولنا.
-اكتشاف ضئيل، تبعاتٌ هائلة:
يُدير الأبحاث في مرصد LIGO تعاون علمي LIGO Scientific Collaboration يضم مجموعةٌ من العلماء البالغ عددهم حوالي 950 عالمًا من جامعاتٍ عدَّة في الولايات المتحدة الأمريكية، منها معهد MIT، وجامعات أخرى من 15 بلدًا. أما عمليات الرصد في مشروع LIGO فيُديرها معهد MIT وجامعة كاليفورنيا التقنية Caltech. واختُبر العالم فايس Weiss التجهيزات بدايةً باعتبارها أدواتٍ للكشف عن الأمواج الثقالية في سبعينيات القرن الماضي، وهو بالمشاركة مع كيب ثورن Kip Thorne ورونالد دريفر Ronald Drever قدموا فكرة مشروع LIGO في الثمانينيات.
واستغرق هذا المشروع عشرين سنةً من العمل والبحث، وبالنسبة للبعض من العلماء المشاركين كان أكثر من ذلك. ومضت السنون الطويلة من العمل على الكواشف دون أن يلتقطوا شيئًا. لهذا كان الاكتشاف تحوُّلًا هائلًا حقيقيًا وتغيُّرًا نفسيًا مشوَّقًا لكامل الفريق.
لقد مثَّل المشروع نصرًا لبحثٍ مولته الحكومة الفيدرالية، وهو مثالٌ عن الاستثمارات عظيمة المخاطرة كبيرة العائد في العلم المُقاد بالاكتشافات. وفي حالتنا هذه كان التمويل عاملًا حاسمًا في نجاح المشروع، واستمر على مدى سنواتٍ عديدة، مع أننا لم نكن متأكدين أنَّ المخرجات سوف تكون مضمونةً. لكن الربح العلمي كان استثنائيًا. فعلى الرغم من أن الاكتشافات التي أُعلنت مذهلةٌ بحد ذاتها إلا أنها تُمثِّل قمة جبل الجليد من المعرفة التي سنحصِّلها في الفيزياء الأساسية، وعن طبيعة الكون .
ستخضع مراصد LIGO لترقية أخرى في المستقبل القريب. وتعمل التجهيزات الحالية بثلث حساسيتها المُخطَّط لها. ويتنَّبأ العلماء بأن التجهيزات ما إن تعمل بكامل طاقتها حتى يستطيع الباحثون رصد الأمواج الثقالية الصادرة عن حافَّة الكون.
وعندما يتحقق ذلك خلال بضعة سنين سيكون بمقدورنا رؤية أحداثٍ في غاية التنوُّع مثل الثقوب السوداء، والنجوم النيوترونية، والمستعرات الفائقة (السوبرنوفا) إضافةً لأمورٍ ما كانت لتخطر لنا على بال، بتواترٍ يصل إلى حدثٍ كل يوم أو بأقل تقدير كل أسبوع، بحسب عدد المفاجآت التي تنتظرنا هناك. وهذا بالضبط هو حلم العلماء، وحتى ذلك الحين ليس لديهم أي مبررٍ يجعلهم يعتقدون بأن حلمهم لن يتحقق.
كان "فايس" أول من طرح التصميم الأولي لمرصد LIGO منذ السبعينيات ضمن تمرينٍ تجريبي في أحد مساقات معهد MIT، وبالنسبة له فإن اكتشاف إشارات الأمواج الثقالية يُمثِّل ربحًا هائلًا.
ويُعبِّر "فايس" بقوله: "هذا أول دليلٍ حقيقي نراه عن الحقول الثقالية عالية الشدَّة، فالأجسام الفلكية العملاقة مثل النجوم تتحرك مقتربةً من بعضها بسرعة هائلة، وتتحطم على بعضها البعض، وتجعل هندسة الزمان-المكان تلتف وكأنها غسالة. وهذه الأشياء الرهيبة القوة تُنتِج تأثيراتٍ بالغة الضآلة في أجهزة الرصد المنصوبة على الأرض، تعادل حركةً بقدر (10 مرفوعة إلى القوة -18 ) متر بين المرآتين في ذراعي مقياس التداخل. إنه أمرٌ لا يُصدَّق.
المصدر:
هنا