نظريّة الانفجار العظيم: 1- نشوء النّظريّة والمشاكل التي واجهتها.
الفيزياء والفلك >>>> علم الفلك
توصّلَ إدوين هابل عبر دراسةِ المجرّات بواسطةِ المقرابِ (التلسكوب) الأكبرِ في ذلكَ الوقتِ، إلى أنّ المجرّات البعيدةِ تبدو وكأنّها تبتعدُ عنّا أكثر فأكثر، وقد وجدَ بمراقبةِ حركةِ المجرّاتِ أنّ علاقةً طرديّةً تربِطُ المسافةَ التي تبعدها مجرّةٌ ما عنّا بسرعةِ ابتعادها؛ أي أنّ المجرّاتِ الأبعد تبتعدُ بسرعةٍ أكبر. استخدم لوميتر هذه الاكتشافاتِ ليلفتَ النّظرَ إلى ورقته البحثيّةِ الّتي صدرت في وقتٍ سابقٍ، والّتي تربط أيضاً بين المسافةِ الّتي تقطعها المجرّة وسرعتها. بتجميعِ ملاحظاتِ هابل مع ورقةِ لوميتر البحثيّة أصبحت غالبيّةُ علماءِ الفلك مقتنعةٌ بأنّ الكونَ يتوسّع.
أحدث الأمرُ ثورةً في دراسةِ علمِ الكون، فقد كانَ النّاسُ قبل مئةِ سنةٍ من الاكتشافِ يعتقدون أنّ حدودَ الكونِ تنتهي معَ حدودِ مجرّةِ دربِ التّبانةِ التي نعيشُ فيها، وبعد فترةٍ وجيزةٍ توصّل لوميتر إلى أنّ السّفرَ في الزّمنِ إلى الخلفِ يجبُ أن يوصلَنا إلى العصرِ الذي كانت فيه مادّةُ الكونِ كلّه مختزلةً في حالةٍ كثيفةٍ للغاية، حالةٌ كان فيها الكونُ بحجمِ البروتون، نجمَ عنها انفجارٌ كبيرٌ أدّى إلى ولادةِ الكون.
تفترضُ نظريّةُ الانفجارِ العظيمِ (The big bang Theory) أنّ انفجاراً عظيماً حدث قبل 13.7 مليارِ سنةٍ أدى لولادةِ الكونِ بشكلهِ الحاليّ بكلّ ما فيه وبدأَ معهُ الزّمانُ والمكان، ولابدّ من التأكيدِ على أنّ هذه النظرية لاتصفُ نشوء الكونِ بل تعبّرُ عن مرحلة انتقالِ الكون من مرحلةٍ كان فيها مجرّد "نقطة" شديدة ارتفاعِ درجةِ الحرارة وشديدةَ الكثافةِ انفجرت لتصلَ بكوننا إلى ما هو عليهِ الآن، فوفقاً لهذهِ النّظريّة فإنّ الكونَ بدأَ بحالةٍ فائقةُ الكثافةِ والسخونةِ ولا يزال يتمدّدُ ويبردُ منذُ ذلك الحين. يُعتقدُ أنّ أوّلَ من صاغَ تعبيرَ "الانفجارِ العظيم" عالمُ الفلكِ البريطانيّ Fred Hoyle أثناء مقابلةٍ بثّها راديو BBC عام 1949م، وبقيت التسميةُ على حالها إلى الآن. لكنّ ما حصلَ فعلاً ليس انفجاراً بالمعنى الدقيقِ للكلمة بقدرِ ما هو انتفاخٌ أو تضخّمٌ لجسمٍ كان بحجمِ البروتون، وبكلّ الأحوال لا تزالُ التسمية بحدّ ذاتها محط جدلٍ بين العلماء.
يعتقدُ العلماءُ بانّ هنالك العديدُ من التّكهّناتِ والسيناريوهاتِ المحتملةِ لمرحلةِ ما قبلَ الانفجارِ العظيمِ (إن كان هنالك مرحلةٌ فعلاً) لكنّها مجرّد تكهّنات غيرُ مدعومةٍ بأيةِ معلومات استقرائيّة (أي المعلومات المبنيّة على فرضيات رياضياتيّة محكمة). وبكلّ حالٍ فإنّه من الممكن أن لا يكونَ هنالك أي حِقبةٍ سابقة. إن كانَ هذا صحيحاً فإنّ كلّ شيءٍ نعرفُه من مادّةٍ وطاقةٍ وزمانٍ ومكانٍ قد برز إلى الوجودِ بشكلٍ مفاجئ. أمّا الفيزياءُ الكموميّةُ فتقترحُ أنّ المكانَ والزّمانَ قد تطوّرا من حالةٍ بدائيّةٍ يمكن توصيفُها اعتماداً على نظريّةِ الجاذبيّة الكموميّة (الأمرُ الّذي يطمحُ العلماءُ بالتّوصّلِ إليه). لدينا أيضاً نظريّةُ الأكوانِ المتعدّدةِ الّتي تقرّها نظريّة الأوتار الفائقةِ؛ والّتي تدرُسُ تغيّراتِ النّفق الكموميّ والاضطّراباتِ الكموميّة في مستوياتٍ مختلفةٍ من الطّاقة. لدينا أخيراً نظريّةُ الكونِ الدّوريّ (Cyclic universe) الّتي تقترحُ أنّ الانفجارَ العظيمِ ما هو إلا آخرُ انفجارٍ حصلَ ضمنَ سلسلةٍ من الانفجاراتِ العظيمةِ السّابقةِ الّتي أدّت إلى توسّعِ الكونِ، ثمّ انهيارهِ ليصبح كتلةً فائقةُ الكثافةِ تجمعُ مادّةَ الكونِ كلّها، ومن ثمّ انفجارِهِ مجدّداً ليتوسّع من جديد. اذاً ليس لدينا نظريّةً تؤكّدُ بشكلٍ قاطعٍ إلى الآن كيفيةَ حدوثِ الانفجارِ العظيمِ وما الذي سبقهُ (إن سبقه أي شيء)، لكنّنا نعرُف حتماً ما تلاه.
وقد واجهت نظريّة الانفجارِ العظيم بعض المشاكل النّظرية، ثمّ حُلّت هذه المشاكل بإدخال بعض التّصحيحات على النّظرية، نذكُر من هذه المشاكل:
1- مشكلة الأفق The horizon problem :
تتوزّعُ الأشعّةُ الميكرويّةُ الخلفيّة للكونِ بشكلٍ منتظمٍ في جميع الاتّجاهاتِ، الأمر الّذي يدلّ على أنّ درجةَ حرارةِ الكونِ هي ذاتُها في مناطقَ مختلفة. كيف يمكنُ لمناطقَ مختلفةٍ من الكونِ وبعيدةٍ كلّ البُعدِ عن بعضِها أن تكونَ على درجةٍ واحدةٍ من الحرارة؟ بعبارةٍ أخرى، كيفَ يمكنُ لمناطقَ تقبعُ خلفَ خطّ الأفقِ بالنّسبةِ لمناطقَ أخرى في الكونِ أن تحصلَ على درجةِ الحرارة ذاتها؟
من هنا جاءت التسمية "مشكلة الأفق".
2- مشكلة الكون المسطّح The flatness problem :
تنبعُ هذه المشكلةُ من شكلِ انحناءِ الكون. يعتقدُ العلماءُ أن الأمرَ يتعلّقُ بكميّةِ المادّةِ الموجودةِ في الكون، فعندما تكونُ كميّةُ المادّة في الكونِ مساويةً لمقدارٍ محدّدٍ يسمّيه العلماءُ "الكثافةَ الحرجةَ"، فإنّ طاقةَ جاذبيّةِ كتلةِ هذه المادّةِ تُصبحُ مساويةً لطاقةِ التّوسّع الّتي نتجت عن الانفجار العظيم. في هذه الحالةِ فإنّ مدى انحناءِ الكونِ يكون مساوياً للصّفر، ويمكننا القولُ حينئذٍ بأن الكونَ ذو شكلٍ مسطّح. إن كانت كميّةُ المادّةِ كبيرةً جداً، فإن الجاذبيّةَ الثّقاليّةَ ستنجحُ في جعلِ الكونِ ينحني حتّى ينغلقَ على نفسه "big crunch"، وفي هذهِ الحالةِ نقولُ إنّ شكلَ الكونِ مُغلقٌ ذو انحناءٍ موجب. إن لم تكن كميّةُ المادّةِ كافيةٌ يمكنُنا القولُ بأنّ الكونَ ذو شكلٍ مفتوحٍ آخذٍ بالتّوسّعِ إلى ما لا نهاية.
تدلّنا الدّراساتُ اليومَ على أنّ كميّةَ المادّةِ في الكونِ الّذي نعرفُه قريبةٌ إلى حدٍّ ما من الكثافةِ الحرجة، لكنّ التّعبير "إلى حدٍّ ما" ليس دقيقاً بما فيهِ الكفايةِ ليُخبرنا عن مستقبل كوننا. إن اختلافاً صغيراً جداً في كثافةِ المادّةِ بعد الانفجارِ العظيمِ كان سيؤدّي إلى مضاعفةِ كتلةِ المادّة اليومَ أضعافاً مضاعفةً ليصبح الكونُ الآخذُ بالتّوسّع بعيداً كلّ البعدِ عن حدّ الكثافةِ الحرجة. لماذا اتّخذ الكونُ شكلاً مسطّحاً ؟!
اقترح العالم آلان غوث عام 1979 الحلّ لهاتينِ المشكلتينِ. أدخلَ غوث مرحلةِ التّضخّم الكونيّ ضمن النّظريّة - وهي مرحلةٌ سنتحدّث عنها بالتّفصيل في الجزء الثّاني - فالكون قبل مرحلةِ التّضخّم كان صغيراً إلى أبعد حدّ، وكانت أجزاؤه قريبةً جدّاً من بعضها ومتّصلةً مع بعضها البعض ولجميعها درجةُ الحرارةِ ذاتُها. وبما أنّ التضخّم كان متناظراً، فقد حافظ على توزّعٍ متجانسٍ للمادّة، وبالتّالي إلى تشابهِ الخصائصِ في أجزاء الكونِ المختلفةِ وانتظامِ درجةِ الحرارة فيها، وهذا ما جعلنا نتلقّى أشعّة الخلفيّة الكونيّة ذاتها من مختلف الاتجاهات. أما بالنّسبةِ لشكلِ الكونِ المسطّح فقد افترضَ آلان غوث أنّ الكونَ مسطّحٌ لأنّ التّضخّمَ كان كبيراً جدّاً بحيثُ يبدو أيّ جُزءٍ من أجزائه مسطّحاً. تخيّل أنك تعيشُ على سطح بالونٍ صغيرٍ يُنفخُ بانتظام، كلّما ازدادَ حجمُ البالونِ حصلتَ على مساحةٍ مسطّحةٍ أكبرَ لتعيش عليها، كذلك كلّما ازداد التّضخّم بدا الكونُ مسطّحاً أكثر. الأمرُ الّذي يفتحُ المجال للتساؤل : هل هناك أجزاءٌ من الكون لم نرها بعد؟
رابط الجزء الثاني : مراحل تطوّر الكون هنا
المصادر
هنا
هنا
هنا