الظروفُ الماليةُ الصعبةُ قد تُصيبكَ بالشيخوخة المبكِرة؟
البيولوجيا والتطوّر >>>> علم المورثات والوراثة
قبلَ أن نعرفَ تفاصيلَ التّجرِبة، من الضروري التعرّفُ على مصطلح الوراثة الفوقية...
يُستخدمُ مصطلحُ (Epigenetic) أو الوراثةُ الفَوقيةُ للدلالةِ على علمٍ حديثٍ نسبياً انطلقَ منذ سبعينياتِ القرنِ الماضي حينَ اكتشفَ الباحثونَ عنصراً يُحدّدُ المورثاتِ التي ستُنسَخ وتُتَرجّم في النواة، هذا العنصرُ هو مجموعةُ الميثيل التي ترتبط بالـ DNA في كلِّ خليةٍ فتكبت المورثاتِ التي ترتبطُ بها، وبذلك تنتقي فقط المورثاتِ المُهّمةَ لإنتاج بروتيناتِ هذه الخلية. وبما أنّ مجموعاتِ الميثيل ترتبطُ بالـ DNA خارجياً دون أن تدخُلَ في بنيته الحلزونية فقد دُعيَ هذا العلم بعلم وراثة التغيّرات فوق الوراثية. للمزيد، يُمكنكم الاطلاع على مقالنا السابق: هنا
هذا وقد أظهرت دراساتٌ سابقةٌ وجودَ علاقةٍ عكسيةٍ بين معدلِ الوفياتِ ومستوى الدَّخل، ولكنَّ هذا البحثَ قد يزودُنا بمعلوماتٍ أكثرَ دقةً حول هذه العَلاقة، فلقد أجرى فريقٌ علميٌ من جامعة جورجيا دراسةً لعيّنة بحثيةٍ مؤلفةٍ من 100 سيدةٍ متوسِّطة العمر من أصلٍ أفريقي_أمريكي، تعيش في الولايات المتحدة. هدفتِ الدراسة إلى معرفة إذا ما كان للضائقة المالية أيُّ تأثيرٍ على عمر حمضهنَّ النووي (DNA)
وأخذت الدراسةُ بعين الاعتبار عواملَ عدّة منها: دخلُ هؤلاء النساء، إضافةً إلى أيّ أسبابٍ أخرى يُمكن أن يكونَ لها تأثيرٌ على حمضهنَّ النووي كمستوى التعليم والحالةِ الاجتماعيةِ والصدماتِ النفسيَّةِ في مرحلة الطفولةِ.
لمَ اختيرت هذه العيّنة تحديداً؟
يعود ذلك إلى ارتفاع معدَّل البطالةِ والسّجن اللذين يُعاني منهما الرجال السود، ما يُرخي بعبء إعالةِ الأسرةِ ماديّاً على كاهل تلك النسوة. وهذا غالباً ما يجعل من مرحلةِ منتصفِ العمر بالنسبة لتلك النساء مرحلةَ تحدياتٍ صعبةٍ، نظراً للضّغط الذي تتحملنَه بسبب إعالتهنَّ لأسرهنَّ كبارَ أفرادِها وصغارِها (أي الأزواج والأبناء) اعتماداً على عملٍ أو أكثرَ من تلك الأعمال منخفضةِ الدخل.
استخدمَ الفريق في هذه التجْرِبة، طريقةً تُعرف باسمِ السّاعةِ فوق الوراثية (Epigenetic clock) وذلك لتحديد عمرِ الحمض النووي لتلك النساء، إذ يُحلّلُ العلماءُ من خلال الوراثةِ الفَوقيةِ المُعلّماتِ markers التي تتوضّع في قمةِ المورثات التي يستخدمها الجسمُ لتشغيلِ أو إيقافِ تلك المورثاتِ طوالَ حياتِنا. يُنظر إلى هذه الطريقةِ في الدراسةِ كساعةٍ بيولوجيةٍ، يُقيَّم عبرها إذا ما كان الفردُ يَشيخُ أسرعَ أو أبطأ من العمر الزمني الحقيقي.
حُلّلَ 71 مُعلِّماً فوق وراثيّ يتحكم بالتعبير المورثيّ، يُعرَف باسم مواقع مَثيلة CpG ( (CpG methylation sitesالتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتعاقب الزمني لمراحل الشيخوخة. ويستخدمها الباحثون لتحديد عمر الحمض النووي للنساء قيد الدراسة ومقارنته مع العمر الحقيقي للنساء نفسِهن. وتتألّف مواقع مَثيلة CpG من ارتباط نيكلوتيد السيتوزين (C) مع نيكلوتيد الجوانين (G) برابطةٍ فوسفاتيةٍ ثنائية الإستر على السلسلة المفردة للـ DNA ، ويُمكن ميثلة هذه المواقع (methylation sites) بإضافة زمرة ميتيل CH3 إليها وتكون هذه الإضافة عند ذرة الكربون الخامسة من نيكلوتيد السيتوزين ليتكوّن 5 ميتل- السيتوزين، الذي سيؤدي بدوره إلى حدوث تغيير في التعبير الوراثي.
للأسف لم تكن تطبيقاتُ نتائج التّجرِبة جيدةً، فكما هو متوقع، وُجِدت علاقةٌ عكسيةٌ بين نصيب الفرد من الدخل والضغوطاتِ المالية من جهة، وتسارعِ الشيخوخة من جهةٍ أخرى، وتوضّح الأرقامُ العلاقةَ السابقةَ وفق ما يلي: أظهر 68% من الأفرادِ مُنخفِضي الدَّخل (أقل من 3,900 دولار) تسارعاً في الشيخوخة، وفي المقابل أظهر 70% من الأفراد ذوي الدَّخل المرتفع (أكثر من 15,000 دولار) تباطُؤاً في الشيخوخة.
يعتقد الباحثون أنَّ سببَ ذلك يعود إلى الإجهاد الذي تُسبِّبه الضغوطاتُ الماليَّةُ، وقد أظهرت دراساتٌ سابقةٌ أنَّ زيادةَ الإجهادِ تُسهِم في الشيخوخة المُبكِرة والوفاة، وقد يكون لها تأثيرٌ سلبيٌّ على الدماغ، ولكنَّ آليةَ هذا التأثير لم تكن معروفةً.
وفي هذا السياق، ما زلنا بحاجةٍ للعديد من الأبحاث، لتوضيح الآليةِ الدقيقةِ التي يؤثّرُ بها الإجهادُ الماليُّ على هذه المُعلِّمات فوق الوراثية وشرحِ هذه العلاقة بالتفصيل. أمّا الآن فليس في وسعنا إلّا التمنّي بأن يتسنّى للعلماءِ الوصولُ إلى طريقةٍ فاعلةٍ تُوقَف من خلالها الشيخوخة بأسرع وقتٍ ممكن...
المصادر:
هنا
هنا
البحث الأصلي: هنا