حلُ لغزٍ لطالَما حيرَّ العلماءَ حولَ كيفيةُ عملِ الرابطةِ الهيدروجينيّةِ.
الفيزياء والفلك >>>> فيزياء
تتكونُ جزيئاتُ الماءِ من ذرَّةِ أكسجينٍ كبيرةٍ وذرتيِّ هيدروجينِ أصغرَ حجماً وعددٍ منَ الالكتروناتِ يطنُّ حولَ هذهِ الذراتِ. ولكنْ بالمعدلِ، تقضي الإلكتروناتُ وقتاً أطولَ في الطنينِ حولَ الأكسجينِ مقارنةً بما تقضيهِ حولَ الهيدروجينِ، وبالتالي يميلُ الأكسجينُ لامتلاكِ شحنةٍ سالبةٍ بينما يميلُ الهيدروجينُ لامتلاكِ شحنةٍ موجبةٍ.
إذا وضعْنا جزيئتين من الماءِ بالقربِ من بعضِهما البعضِ، فإنَّ ذرةَ الأكسجينِ (السالبة) في إحدى الجزيئتينِ تميلُ لجذبِ ذرتيّ الهيدروجينِ (الموجبتين) في الجزيئةِ الأخرى. وسوفَ ينتهي الحالُ بالجزيئتينِ وذرةُ أكسجينِ إحداهما قريبةً جداً من ذرّةِ هيدروجينِ واحدةٍ من الأخرى. وإذا وضعتَ العديدَ من جزيئاتِ الماءِ سويةً فسوفَ ترتِّبُ نفسها تلقائياً بحيثُ تكونُ كلّ ذرةِ أكسجين مواجهةً لذرةِ هيدروجينِ جزيئةٍ أخرى.
بعدَ ذلكَ ولأنَّ الجزيئاتَ تهتزُ في موضعِها طوالَ الوقتِ، فإنَّها تبدِّلُ من حينٍ لآخرَ بينَ الاصطفافِ معَ إحدى مجموعاتِ الجزيئاتِ المجاورةِ لها (وفقَ الآليةِ السابقةِ) وتصطفُّ معَ مجموعةٍ مجاورةٍ أخرى. يَحلو للعلماءِ عادةً أنْ يشبِّهوا جزيئاتَ الماءِ بالراقصينَ والراقصاتِ الذينَ يحبّونَ أن يتبادلوا شركائَهُم. عمليةُ التجاذبِ وتبديلِ الشركاءِ هذهِ تدعى بالرابطةِ الهيدروجينيةِ. وهي السببُ الكامنُ وراءَ خاصّيةِ التوتّرِ السطحيِّ، وهو ميلُ جزيئاتِ الماءِ للتجمّعِ سويةً بدلاً منَ التباعدِ، أي أنَّها تُفسّرُ تجمعَ قطراتِ الماءِ على شكلِ قطرةٍ واحدةٍ ضخمةٍ.
ولكن هناكَ فجوتينِ في هذا التفسيرِ. في حالِ كانَتْ كلُ جزيئاتِ الماءِ مصطفّةً ضمنَ مجموعاتٍ فكيفَ يُمكنُ لجزيئةٍ أنْ تجدَ شريكاً جديدً دونَ أنْ تعطِّلَ الرقصةَ بأكملِها؟ وماذا قد يحدثُ إذا لم تهتزَّ الجزيئاتُ بمقدارٍ كافٍ يُمكِّنُها من تبديلِ شركائِها باستمرارٍ؟ هل تنهارُ القطرةُ ببساطةٍ؟
طَرَحَتْ هذهِ التساؤلاتُ نَفسَهَا على علماءِ فيزياءٍ من جامعةِ كامبريدجِ البريطانيةِ، وحاولوا الإجابةَ عليها من خلالِ مراقبةِ مجموعاتٍ من جزيئاتِ الماءِ، تتألفُ كلٌ منهَا من ستةِ جزيئاتٍ مبرَّدةٍ تبريداً فائقاً
في البدايةِ حقَّقَ العلماءُ في ما يحدثُ عندما تبدِّلُ إحدى الجزيئاتُ شريكَهَا، واكتشفوا أنَّ عمليةَ التبديلِ لا تجري بينَ جزيئتينِ فقطْ، بل تجري بين زوجينِ من الجزيئاتِ على أصغرِ نطاقٍ. بما يشابهُ طريقةَ عملِ التروسِ المسنّنةِ. أي عندَما تتحركُ إحدى الجزيئاتُ (المسننات) لتُغيِّرَ شريكها وتشكِّلُ رابطةً هيدروجينيةً جديدةً فإنها تحرِّكُ المسنّنَ المجاورَ لها (شريكَها القديم) وتحرِّرهُ من الرابطةِ الهيدروجينيةِ السابقةِ بينهما، وهذه الجزيئةُ ترتبطُ بدورِها بجزيئةٍ جديدةٍ بحيثِ لا تمرُّ أيٌ من الجزيئاتِ بفترةٍ مربكةٍ تبقى فيها بدونِ شريكٍ.
ولكنَ الموضوعَ لم ينتهِ عندَ هذا الحدِّ، فاهتزازُ الجزيئاتِ يتعلَّقُ بدرجةِ حرارتِها والجزيئاتُ في هذهِ التجربةِ، وبسببِ حالةِ التبريدِ الفائقِ التي وُضِعَتْ بها، لم تكنْ تهتزُّ بما فيهِ الكفايةِ لتبدِّلَ شركائَها باستمرارٍ، إلا أنّها كانَت تقومُ بهذا. لجأَ الباحثونَ للمحاكاةِ الحاسوبيَّةِ محاولينَ تفسيرَهذا.
لا تملكُ الجسيماتُ الكموميةُ مواقعَ محددةً (هذا الكلامُ ينطبقُ في الواقعِ على كلِّ الأشياءِ في الكونِ، ولكن دعونا لا نبتعد عن موضوعِنا). عوضاً عن ذلكَ فإنَّ مواضعَها يُعبَّرُعنها نوعاً ما بانتشارِها عبر المكانِ، أي أنّها تكونُ غالباً في المكانِ الذي نتوقّعُ وجودَها فيهِ، ولكن منَ الممكنِ أيضاً أنْ تتواجدَ في مكانٍ آخرَ حتى ولو لم تمتلكْ طاقةً كافيةً للانتقالِ إلى ذلكَ المكانِ. فلنتخيَّلِ الأمرَ كالتالي، رَميتَ كرةً نحو حائطٍ وبدلاً من أنْ تصطدمَ بالحائطِ وترتدَّ إليكَ، فإنَّها تعبرُ الحائطَ إلى الطرفِ الأخرِ بدونِ تحطيمِ الحائطِ. في هذهِ الحالةِ سيبدو لكَ أنَّ كرتَكَ عبرَت نفقاً من نوعٍ ما في حينٍ أنَّ هذا النفقَ غيرُ موجودٍ.
بيَّنتِ المحاكاةُ الحاسوبيَّةُ التي قامَ بها الباحثونَ والتي نٌشِرَت في دوريَّةِ Science مؤخّراً أنَّ هذه الظاهرةِ هي ما يمكِّنٌ جزيئاتِ الماءِ من تبديلِ شركائِها والمحافظةِ على الروابطِ الهيدرجينيَّةِ بينها. فالجزيئاتٌ لم تكن تهتزٌّ كفايةً لتقومَ بالرقصةِ بمفردِها، ولهذا فلا بدَّ من أنّها اعتمدَت على ظاهرةِ النفقِ الكميِّ لمساعدتِها. بهذه الطريقةِ بدلاً من تحرُّكِ الجزيئةِ باتجاهِ شريكِها الجديدِ، فإنَّها تظهرٌ فجأةً بجانبِ شريكِها الجديدٍ. وتنسِّقٌ الجزيئاتُ بين بعضِها بحيثُ لا تبقى أيُّ جزيئةٍ بدونِ شريكٍ أبداً. يا له من عالمٍ عادلٍ، عالمُ ميكانيكِ الكمِّ. وها أنا قد وفيتُ بوعدي وجعلتُ عالَمَ ميكانيكِ الكمِّ في متناولِ أيديكم بوساطةِ كميَّةٍ قليلةٍ من المياهِ.