مراجعة رواية (حين تركنا الجسر): حين تركنا الجسر وانكسرنا
كتاب >>>> روايات ومقالات
في حالة من اليأس والألم، خطّ عبد الرحمن منيف روايته وكأنه يحادث نفسه؛ فقد اعتمد في سرد الرواية على زكي النداوي الذي يخاطب كلبه على مداد الرواية ويخبره عن خيباته وغضبه. زكي لا يمتلك رفاقاً سوى <<وردان>> كلب الصيد. يروي له قصصه مع والده وحكمته. يشتمه للحظات ثم يقبل عليه مجدداً موقناً أنه لا يملك أحداً سواه. وفي الليالي حينما يكتمل القمر، يشرع زكي بملاحقة حلمه المشوب بأمل طفيف؛ الملكة! تلك العنقاء بجناحيها المهيبين وغموضها، حاول زكي صيدها مرات، فكانت تختفي، كالسراب. هو يعلم عدم براعته بالصيد ويقر بذلك، إنما يحاول إنكار هذه الحقيقة أمام الشيخ الذي صادفه يصطاد ببراعة. علاوة على ذلك، فإن الصيد لم يكن موهبته التي يشغلها، إنما انتقام يقتل به الوقت!
إن السبب الرئيس وراء سخط زكي هو الجسر. أي جسر؟ الجسر الذي بناه يوماً ورفاقه، ولم يعبروه. الجسر الذي غنوا له ليلاً وأزالوا غبار الصحراء عنه، ثم تراجعوا. اللوم لم يرحمه.
حِكَم كثيرة تنبع من مفاهيم زكي للحياة والكائنات. فللقمر مثلاً مفهوم خاص عنده؛ فهو "مخلوق محايد وأخرس. في ضوئه يتمرغ الفرحون، المنتصرون. أما الجبناء، المهزومون، فإنهم يدفنون أنفسهم في شحوبه الذي لا ينتهي!". ستجده يبحث عن الشعور بالدفء، لا الدفء؛ فالشعور بالدفء أهم من الدفء ذاته. وتجده يلم شتات نفسه مستجمعاً إرادته التي يرى أن اليأس مصدرها. وتجده يشتم نفسه حيناً، ويشتم الإنسان بشكل عام حيناً آخر. فالإنسان بنظره هو أكبر قوة على الأرض ولا يمكن لشيء أن يردعه، إلا أنه خَنوع، مستسلم أبداً. كان يكره أن يخالط الناس فهم "لا يعلمون". أحقاً لا يعلمون؟ ففي المرة الأخيرة، في لحظة اصطياده للملكة، التي تهاوت بين يديه كائناً قبيحاً بارداً، لم تعد تتملكه أي رغبة اتجاهها. وحين تعرض لفقدان صديقه، ذهب بين زحام البشر ونظر إلى الوجوه، وحينها زال الضباب. الجميع يعلمون، ذلك الحزن الذي يحفر أماراته على الوجوه دليلاً واضحاً. لكنهم ينتظرون. ينتظرون الوقت المناسب، ينتظرون ليفعلوا شيئاً، فالجسر ليس سراً، الانهزام ليس سراً، وعدم عبوره كان عبئاً على الجميع.
خلال قراءتك لهذه الرواية ستلاحظ الرمزية التي أسهب فيها الكاتب، إلى درجة قد تشعرك بأنه أراد أن يفرغ داخله دونما تقدير لأي شيء آخر! هذيان جميل يرميك في الضياع لحظةً، ليلتقطك لحظةً أخرى مرشداً إياك على الطريق الصحيح، أو ربما ليس الصحيح؛ بل المناسب. زكي هو إنسان عادي، يصور حالة أي شخص آخر في انهزاماته. لعل منيف أراد هذه الرمزية المكثفة لاحترام خيال القارئ الذي ينبثق من واقعه المضني. فعندما يقرأ هذه الرواية، سيجد نفسه من خلالها. وسيجد دافعاً قوياً يحثه على المضي؛ فليست خيبة الماضي ما تقف في وجهه، وأنما تدفعه إلى الجنون ليقف مجدداً، مليئاً بالشتائم والكراهية لهذا العالم محاولاً كسره وإذلاله، فهو يثأر الآن.
كما يرى الكاتب أيضاً أن الذاكرة بالنسبة للإنسان هي التجربة، وهي ما يمنع الهزيمة. فما دام للإنسان ذاكرة، لن يخمد. ولن يكون بحاجة إلى أحد ليسانده، بل بحاجة إلى نفسه وحدها. فبطل روايتنا لم يكن له صديق أو قريب، إنما كلب لا ينطق. منصت دوماً. مما ألح على زكي ليخلص نفسه بيديه. وعندما حرر نفسه من قوقعته التي لا تتعدى وردان، تجلت الرؤية كلياً.
معلومات الكتاب:
الكاتب: عبد الرحم منيف.
الكتاب: حين تركنا الجسر.
دار النشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت
الطبعة الرابعة 1987
عدد الصفحات: 217 صفحة ورقي