5. النظريات الوسطية في العقاب
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> الفلسفة
ثالثا: النظريات الوسطية
إن الكثير من واضعي النظريات قاموا بأخذ بعض مميزات المذهب النفعي ومذهب القصاص، وجمعوها معاً في نظرية تحافظ على نقاط القوة وتتغلب على نقاط الضعف. وما يحفز تطوير نوع كهذا من النظريات واضح جداً، فإن فكرة أن العقاب يجب أن يعزز النتائج الجيدة - كالحد من الجريمة - تبدو مغرية جداً.
وبجميع الأحوال بما أن فكرة معاقبة شخص بريء، فقط لأن العقاب سوف يحقق رجحان السعادة على التعاسة أمرٌ خاطئٌ بشكل واضح جداً، وكذلك فكرة أن العدالة والاستحقاق يجب أن تلعب دوراً مركزياً في تبرير العقاب تبدو مغرية أيضاً، ولكن الإقدام على عقابٍ لا يعود بالفائدة على أحد فيه إشكال. لذلك فإن كل نظرية فيها جوانب ضعف وجوانب قوة. وفي بحثنا حول كيف يمكن جمعها معاً للوصول إلى النظرية الأمثل، سوف نقوم بتفحص نظرية "هارت".
1- نظرية هارت:
تبعاً لهارت ولكي نوضح مفهومنا أكثر عن العقاب، ما نحتاجه ما علينا إلا البحث عن الأجوبة على مجموعة من الأسئلة المهمة مثل: ما الذي يبرر ممارسة العقاب؟! وعلى من يجب تطبيقه؟! والإخفاق في الفصل بين هذه الأسئلة، وعدم الأخذ بعين الاعتبار إمكانية الإجابة عليها بالاستعانة بالنظريات المختلفة، منع العديد من النظريات السابقة من إنتاج منظور مقبول للعقاب.
هارت يتحدث عن السؤال الأول "ما الذي يبرر الممارسة العامة للعقاب؟!" بأنه سؤال لـ"التبرير العام للهدف" ويجب الإجابة عنه بالاستشهاد بوجهات نظر النفعيين. والثاني "على من يجب تطبيقه؟!" هو سؤال لـ"التصنيف" ويجب الإجابة عنه بالاستشهاد بوجهات نظر متبعي مذهب القصاص.
إذن فالممارسة العامة يجب أن تُبَرر من خلال الآثار المترتبة على تطبيق العقاب، وأن يكون الحد من الجريمة هو الهدف الاجتماعي الرئيسي. ولكن بجب ألا يُسمح لنا بتطبيق العقاب فقط عندما يؤدي إلى إنقاص الجريمة، وبعبارة أخرى ربما قد لا نطبق العقاب دون تمييز، فربما فقط نعاقب مذنباً بجرمه. ومع القليل من الاستثناءات، الفرد الذي يجب أن يطبق عليه العقاب يجب أن يكون قد ارتكب جرماً، ويجب أن يكون العقاب ذا صلة بذاك الجرم.
تلعب وجهات نظر النفعيين دوراً رئيسياً في نظريته: تطبيق العقاب يجب أن يؤدي إلى الحد من الجريمة، وإلا لن يكون مبرَّراً. ولكن في المقابل تلعب وجهات نظر القصاصيين دوراً أساسياً أيضاً: مجموعة من الممارسات المقبولة التي يمكن أن تمارس من قبل المعنيين بالحد من الجريمة، يجب أن تكون مقيدة بمبدأ قصاص يسمح بمعاقبة الجاني فقط لارتكابه جريمة.
نظرية هارت - على أقل تقدير - تقدم محاولة معقولة في التسوية بين من يميلون نحو النفعية، ومن يميلون نحو القصاص. ويعترف هارت أننا في مناسبات معينة نعتمد مبدأ معاقبة مذنب فقط لارتكابه جرماً - ويشار إليه بمبدأ "القصاص في التصنيف" - قد يتم تجاوزه من خلال النفعيين. وعندما تكون قضية النفعي في معاقبة شخص بريء مقنعة جداً، من الأفضل لنا أن نفعل ذلك مع عدم تجاهلنا أننا قد ضحينا بمبدأ هام جداً.
العديد من الناس قد يتفقون مع هارت أنه يجب علينا تطبيق العقوبة على شخص بريء في الحالات القصوى، ويبدو ذلك ميزة في نظريته بما أنه يعترف أننا في تلك الحالات قد تخلينا عن مبدأ هام جداً!
2- الاعتراضات على النظرية والردود عليها:
في نظرية هارت كي يكون العقاب مبرراً يجب إما أن يعزز بعض المنافع الإجتماعية، أو أن يخفّض نسبة بعض الشرور. ولهذا السبب لا يعتبر عقاب شخصٍ مذنبٍ مبرراً ما لم يخدم العقاب أحد أغراض النفعيين.
الآن تخيل معنا أحقر شخصية من الممكن أن يتصورها عقلك - كقاتل جماعي على سبيل المثال - برأيهم إن عقاب شخصية كهذه مرتبطٌ بالآثار الاجتماعية المترتبة على العقوبة، ذلك لأن - فقط - معاناة شخصٍ فاسدٍ بسبب جريمته ليست كافيةً في نظرهم.
لهذا يعتبر بعض واضعي النظريات نظرية هارت غير مقبولة، فيحتجُّ عليها "تِن" قائلاً أننا إن طبقناها سنضطر في بعض المناسبات أن نعاقب مجرماً بذنبٍ صغيرٍ مقارنة بآخر جرمُه أكبر، دون أن ننزل العقوبة بذلك الأخير، وهذا ما يبدو غير عادلٍ على الإطلاق.
ولتقييم نقد "تِن" علينا أن نطرح سؤالاً: إن صادف أن تجنبنا عقاب مذنبٍ جرمه أخطر وأكبر، سوف نكون مجحفين بحق من؟! وفي محاولة للإجابة على هذا السؤال علينا الأخذ بعين الاعتبار ما إذا كان الجاني ذو الجرم الأقل يمتلك أسباباً مقنعة للشكوى إن لم يتم تطبيق العقاب على من هو أكثر منه جرماً، و وفقاً للنص لقد أذنب المتهم ذو الجرم الأقل وبالتالي لا يستطيع أن يطالب بخرق العدالة مرتكزاً على هذه الأسباب، وبهذا هل يكون عقابه متوقفاً على عقاب الآخرين؟!
يمكننا القول...لا... فالمذنب ذو الجرم الأقل يجب أن يلقى عقوبته بغض النظر عن هل عوقب غيره أم لا... سوف يندب حظه ويتمنى لو أن تطبيق العقاب عليه لن يعود بالنفع على غايات المنفعيين لكي يتجنبه، ولكن لن يكون من حقه أن يتهم المجتمع باختراق العدالة إن لم يطبِّق العقابَ على غيره، فهو في الأصل ارتكب جرماً ويستحق العقوبة عليه.
إن جاذبية حُجّة "تِن" مستمدة من حقيقة أن استنتاجها يتناسب مع بديهياتنا أن بعض البشر يستحقون المعاناة مهما كلف الأمر. ربما علينا إعادة النظر في هذه البديهيات هل هي بغرض الانتقام، أم حبّاً بتطبيق العدالة!
المصدر: هنا
مصدر الصورة: هنا