الموت الرحيم الطوعي (الرافضون)
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> علم الاجتماع
قد قام المعترضون ببلورة آرائهم واعتراضاتهم حول خمسة أفكار، منها ما تعلّق بالعلاج وغائيّته ومنها ما ارتبط بأهليّة ورغبة الرّاغب في الموت، وهناك ما تمحور حول مبدأ التّاثير المزدوج. وكذلك قد فرّقوا بين مصطلحي الفاعل والمنفعل وشرعيّة كل منهما. وبهذا نكون أمام هذه الاعتراضات التالية:
-الاعتراض الأول: رفض المعترضون البند الذي تحدّث عن طواعية الشّخص الرّاغب في الموت ورغبته المطلقة وأهليّته، فقالوا أنّه لايمكن أبداً أن يكون لدينا دليل قاطع على الاعتقاد أنّ طلبَ الشّخص لمساعدته في الموت يُعتبر طلباً ذا أهلية. وذلك لأنّهم وجدوا بأنّ طلب الموت قد لا يعكس رغبة مستمرّة بالموت، فربّما كان يعكس حالة يأس مؤقتة. وهذا الذي دفع مؤيدو الموت الرّحيم الطّوعي للنقاش حول وجود فترة كافية قبل القتل الرّحيم كفيلة للتأكّد من أنّ هذه الرّغبة دائمة. ويضيف المعترضون أنه، في حال ناقش هذا الشّخص المؤهّل القضيّة مع آخرين في مناسباتٍ عديدة خلال مدّة من الزّمن و بقي ثابتاً في قراره، فإنّ رغبته في الموت يجب أن تُعتبر رغبة دائمة. أما في حالة الشّخص الّذي تألّم أو أصبح مشوشاً ذهنياً، هنا يستطيع الشخص أن يشير قبل فقدانه القدرة على إعطاء موافقة دائمة وطوعية كيف يرغب أن يكون علاجه في حال أصبح مريضاً بشكل ميؤوس منه وعانى من ألم شديد أو فقد السيطرة على حياته. حيث أنّ "الإرادة الحية" أو "التوجيهات المسبقة" هي أدوات مشروعة لإعطاء الشّخص حرية اختيار رغبته.
-الاعتراض الثاني: يرتبط هذا الاعتراض بمبدأ "التّأثير المزدوج" الذي يندرج تحت فلسفة الأخلاق، والذي يقول بأنّ القيام بفعلٍ جيّد أخلاقيّاً وانعكس عليه ردّ فعلٍ سيّء يجب اعتبار هذا الفعل مقبول. وبالتالي وفقاً لأحد تفسيرات "مبدأ التأثير المزدوج " من المسموح التّصرّف بطريقة من المتوقع أن يكون لها نتائج سيئة و ذلك شرط ما يلي :
1- أن يحدث كتأثير جانبي (أو غير مباشر) للفعل المباشر المراد تحقيقه.
2- أن يكون الهدف المباشر للفعل جيداً أخلاقياً أو معتدلاً على الأقل.
3- لا يتم إنجاز التأثير الجيد عن طريق التأثير السيء، فالسيء لا يجب أن يكون وسيلة للجيد.
4- لا يجب أن يكون التأثير السيء واضحاً بحيث يغلب التأثير الجيد.
ووفقاً لمبدأ التأثير المزدوج، فإنه مسموح على سبيل المثال تخفيف الألم (تأثير جيد) بإعطاء دواء كالمورفين على الرغم من معرفة أن ذلك سيقصّر من العمر، لكن من غير المسموح إعطاء دواء مع الرغبة المباشرة لتقصير حياة المريض (تأثير سيء)، و قيل هذا الادّعاء الأخير لكي يتم تطبيقه بغضّ النّظر إذا كانت الحقنة أُعطيت بموافقة المريض أم لا. وهذا ما وجده المعترضون ذا صلة كبيرة بموضوع الموت الرّحيم الطّوعي وذلك فقط عندما يكون موت الشّخص سيئاً أو مؤذياً له. ويمكننا تفسير مفهوم "مؤذي" في بعض الأحيان بأنّه ضرر باهتمامات الشّخص سواء وافق عليه أم لا، و أحياناً أخرى يتم تفسيره بدقّة أكثر بأنّه أُلحق ظلماً وضرراً. عموماً وفي كلا التفسيرين للأذى يمكن أن يوجد حالات يكون فيها موت الشّخص لا يشكّل أذىً له لأنّه سيقدّم له حالاً أفضل منه إذا بقي حيّاً.
- الاعتراض الثالث: تمّت بلورة هذا الاعتراض حول الجدل الواسع الذي صيغ للتفرقة بين القتل الفعّال أو المباشر(المتعمّد)، والقتل غير الفعّال(المنفعل). حيث أنّ القتل الفعَّال يكون كإعطاء المريض جرعة قاتلة من دواءٍ مُعدّ ٍ لذلك، وهو على أشكال:
- الحالة الإراديّة وتكون بناء على طلبٍ ملحّ من المريض أو وصيّة مكتوبة مسبقاً من قبله.
- الحالة اللاإرادية وهي حالة المريض العاقل الذي فقد الوعي، حينئذ تتم العملية بتقدير الطّبيب الذي يعتقد بأن القتل في صالح المريض، أو بناءً على قرار من ولي أمر المريض أو أقربائه الذين يرون أنّ القتل في صالح المريض.
أمّا القتل غير الفعال، ويتم ذلك برفض علاج المريض أو إيقاف العلاج اللازم كالأجهزة الحيوية للمحافظة على الحياة، أو إيقاف عمل الآلة، أو تخفيف كمّيّة الأوكسجين، أو إعطاء المريض أدوية خاصّة على مراحل تؤدّي إلى توقّف عمل القلب.
ويكمن الفرق بين مفهومي الموت الرّحيم الفعّال والمنفعل بأنّه، في الأوّل يتمّ قتل الشّخص بالتّدخل المباشر، أمّا في النّوع الثّاني يكون بتركه يموت ببطء، وعليه يكون الفرق لغويّاً أكثر مما هو أخلاقيّاً. وكون النتيجة من وجهة نظر المعترضين تكون واحدة وهي المساعدة على الموت، فمثلاً إعطاء المورفين بكمّيّات تفوق تلك اللازمة للسيطرة على الألم، أو إزالة المنفسة من شخص يعاني من شلل العصبون الأمامي، يعتبره العديد نوعٌ من جلب الموت عمداً للشخص، كما يوجد حالات يقول فيها الأطباء أنّ ما قاموا به من أفعال أو سوء فعل سيجلب الموت لمرضاهم حتى لو لم تكن رغبتهم بأن يموت هؤلاء المرضى. فمثلاً إذا رفض مريض العلاج الطبي المطيل للحياة لأنه يعتبره بلا جدوى، فيمكننا القول أنّ الطّبيب يجب عليه أن يحترم رغبة المريض.
- الاعتراض الرابع: ومن بين كلّ الحجج الّتي تُساق ضِدّ القتل الرّحيم الطّوعي، فإنّ أكثرها نفوذاً وقوّة هي حجّة "المنحدر الزَلِق". فبمجرّد أن نسمح للأطّباء بقتل المرضى، فلن يكون بوسعنا أن نُحدّ أعداد القتلى بين هؤلاء الراغبين في الموت. وبالتالي هذا يسوقنا نحو أمور كارثيّة غير متوقّعة. وكان هناك نزعة للادّعاء أنّ التّجارب مع تشريع الموت الرّحيم في هولندا أكّدت حقيقة المنحدر الزلق. ولكن ما كُشِف عنه مؤخراً بشأن ما حدث في إحدى مستشفيات "نيو أورليانز" بعد إعصار "كاترينا" يشير إلى وجود خطر حقيقي مقبل من مصدرٍ مختلف. فحين غمرت مياه الفيضان نيو أورليانز، تسبّب ذلك بارتفاع منسوب المياه والذي أدّى إلى عزلة المركز الطّبي الذي كان يؤوي أكثر من مائتي مريض عن العالم الخارجي، وبعد مرور ثلاثة أيام منذ بدأ الإعصار، انقطع التّيار الكهربائيّ، ومات بعض المرضى الذين كانوا يعتمدون على أجهزة التنفس الصّناعي. وتمّ استدعاء طائرات الهليكوبتر لإجلاء المرضى، فأعطيت الأولويّة للمرضى الّذين كانوا في حالةٍ صحيّة أفضل والذين كان بوسعهم السّير إلى الطّائرات. فمثلاً في الطّابق الثامن، كانت "جاني بيرجس"، وهي مريضة في التّاسعة والسّبعين من عمرها ومصابة بسرطان في مرحلة متقدمة، قريبة من الموت. ولإجلائها كان لابد من حملها ستة طوابق على الدّرج. وهنا أصدر "إوينج كوك" ـ أحد الأطباء الحاضرين ـ تعليماته للممرضة بزيادة جرعة المورفين التي تتلقاها المريضة قائلاً لها: "استمري في زيادة الجرعة إلى أن تفارق الحياة". ومن بين المرضى الذين حُقِنوا بهذا المزيج القاتل، كان "إيميت إيفيرت"، وهو رجل يبلغ من العمر 61 عاماً وكان في المستشفى للخضوع لجراحة للتخفيف من انسداد في الأمعاء وعندما كان وزنه كان حوالي 173 كيلوجراماً، ولقد حال ذلك دون إمكانية حمله على الدّرج نزولاً ثم صعوداً إلى حيث تهبط طائرات الهليوكوبتر. وهذه الحادثة كانت مثالاً واضحاً حول ما دُعي من قبل المعترضين بـ" المنحدر الزلق".
لا يوجد شيء متناقض منطقياً في دعم القتل الرّحيم الطّوعي ورفض القتل الرّحيم غير الطّوعي، حيث أنّ بعض مؤيدي الموت الرّحيم الطّوعي يتمنّون أيضاً أن يقدّموا دعمهم لبعض الأفعال من القتل الرّحيم غير الطّوعي. ولنفترض أنّ الحالة الأخلاقيّة لتشريع الموت الرّحيم الطّوعي حُكمت بأنّها أقوى من الحالة ضدّ التّشريع. وأنّ هذا النّوع من الموت أصبح شرعياً ومسموحاً في عدّة دول. يبقى السؤال، هل على الأطباء المشاركة في الممارسة؟ وهل الأطباء فقط هم مَن يمارسون الموت الرّحيم الطّوعي؟ هذه الأسئلة يجب أن تجد أجوبتها في ضوء الفهم الأفضل لكيفية توفير العلاج الطّبي، فإنّ الاستخدام المناسب للعلاج الطبي يجب أن يعزز فائدة المريض منه مع احترام محدداته الذاتية، هذه القيم هي التي يجب أن تقود العلاج الطبي. فالعديد من الأطّباء في هولندا والدّول الدّيمقراطيّة الأخرى، يرون بأنّ ممارسة القتل الرّحيم الطّوعي والانتحار بمساعدة الطّبيب ليس متوافقاً مع التزاماتهم المهنيّة فحسب، بل أيضاً مع تصوّرهم حول العلاج الأفضل للذين يحتضرون بحيث يجب ألّا يكون ممنوعاً بالقانون إعطاء مساعدتهم المهنيّة لمريض ميئوس من شفائه وطلب المساعدة في الموت، لأنّ معاناته لا يمكن علاجها أو حياته لم تعد ذا قيمة بالنّسبة له.
نهايةً، بقي الجدل حول شرعية أو عدم شرعية الموت الرحيم مشتعلاً حتى اللحظة. ومن دورنا في متابعة كل جديد رغبنا في تسليط الضوء على هذه القضية والتي أثارت العديد من وجهات النظر بين مؤيدِ ورافضِ لها. نحن لا نقف في هذا المقال مع رأيِ ضد آخر ولكن انطلاقاً من واجبنا في التركيز على ما هو جديد في ميدان العلم مهما كان مجاله تطرقنا لهذا الموضوع. إن الحياة ثمينة و تكون ثمينة أكثر عندما نريدها كذلك.
المرجع:
هنا