ميخائيل مِشاقة... هل هو ميخائيل الدمشقي؟؟
التاريخ وعلم الآثار >>>> تحقيقات ووقائع تاريخية
ولد مِشاقة في بلدة رَشميا في لبنان عام 1800م، والتي تبعد 12 كم جنوب شرق بيروت في أسرةٍ مسيحيةٍ ذات أصولٍ إغريقيةٍ ومن الطبقة المتوسطة التي تعمل بالتجارة وكانت مقربةً من القوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية لتلك المرحلة. اسم العائلة مِشاقة مشتقٌ من عملية غزل نسيج الحرير والكتان والقنب والقطن حيث عمل جد مِشاقة الأكبر يوسف وقبل ذلك كان اسم العائلي الأصلي بطرَكي.
انتقلت عائلة ميخائيل إلى دير القمر التي كانت تحت حكم الأمراء الشهابيين حيث عمل معظم أفراد عائلته في التجارة والإدارة والخدمات وكانوا مقربين من بلاط الأمير بشير الشهابي الثاني. خلف ميخائيل والده في العمل في بلاط الأمير بشير الثاني والذي مثله في عدة لقاءات مع حلفاءه وفي جمع الضرائب من سكان منطقة الجبل. في الحقيقة وفي تلك الفترة ذاع صيت ميخائيل كدبلوماسيٍّ محنكٍ وازدادت دائرة معارفه مما فتح له الباب لمنصبٍ عالٍ كممثلٍ للأمير بشير الثاني.
في عام 1833م عينه سعد الدين أمير حاصبيا وكيلاً له في دمشق بعد موافقة الأمير بشير وذلك لحماية مصالحه في دمشق أثناء الحكم المصري الجديد لسوريا. نَما وضع مِشاقة المالي حيث كسب بعض الأراضي من رب عمله الجديد في قرية الحُولة وفي قرية صغيرة بجانب القنيطرة.
استقر بعدها في دمشق المركز اللإداري لمنطقة سوريا تحت الحكم المصري. في الحقيقة أثارت هذه المدينة الكبيرة شغفه للمعرفة أكثر فأكثر، فقد وسع علاقاته خارج نطاق الجبل واستطاع التقرب من مسلمي دمشق من أعيان وتجار بالإضافة لممثلي القنصليات الأجنبية في دمشق.
بدأ بدراسة الطب في دمشق ثم سافر إلى مصر ليكمل دراسته هناك وحصل على شهادة في الطب عام 1845م. عاد بعدها إلى دمشق حيث عُيِّن كبير الأطباء، إلا أن دخله من الطب لم يكن كافيًا لذلك أرسل إلى إلِلي سميث مفوض البعثة التبشيرية الأمريكية في دمشق وعاد لمزاولة التجارة. كما دعم علاقته بالقنصل البريطاني ريتشار وود الذي عينه ترجمانًا له. شارك مِشاقة بين أربعينيات وخمسينيات القرن التاسع عشر البعثة الأمريكية نشاطاتها التبشيرية والتي وصلت ذروتها عندما تحول مِشاقة نفسه من الكاثوليكية إلى البروتستانتية عام 1848م. كما حل محل صديقه المقرب بطرس البستاني كمعلمٍ للعربية للتبشيريين.
فتح له العمل مع البعثات التبشيرية الباب للتعرف على تجار وموظفين إداريين أجانب الأمر الذي سهل له الطريق ليكون مفوضاَ للقنصلية الأمريكية في دمشق بين عامي 1859 و1870م.
لم تفقده الأعمال التجارية والنشاطات والمناصب اهتمامه بالعلم والفكر، فقد كتب في الطب والتاريخ وعلم اللاهوت وحتى في الموسيقى العربية، كما قدم تقريرًا إحصائيًا عن المساجد والمؤسسات المسلمة في دمشق والتي تعد مرجعًا هامًا في دراسة التاريخ المدني للمسلمين. لم تقتصر نشاطاته على دمشق وإنما كان منجذبًا لغنى الحياة الثقافية في بيروت في ذلك الوقت، فقد شارك في بداية الأربعينيات من القرن التاسع عشر ببعض الجمعيات كالجمعية السورية لاكتساب العلوم والفنون والتي كانت تقتصر على المسيحيين في البداية ثم سميت في الستينيات بـ "الجمعية السورية" فاتحةً أبوابها للمسيحيين والمسلمين على حدٍ سواء.
قرأ عن مفكرين من الغرب واستغرب أفكار مفكرين كبار كفولتيير وروسو اللذان بَدَوا رافضين لكل الأديان خوفًا من سيطرتها على أرواحهما، بينما كان منبهرًا بحماسة نيوتن للدين، الأمر الذي جعله يشكك بديانته ثم اختار التحول إلى البروتستانتية والتي رآها المذهب الوحيد الملتزم بالإنجيل بشكل كامل.
أثرت أحداث دمشق في 1860م كثيرًا على مِشاقة كما على الكثير من المفكرين المعاصرين له وفي حالته كان التأثير ماديًا ومعنويًا حيث تلقى ضربة فأسٍ على صدغه وجانبه الأيمن كما تعرض بيته وممتلكاته لأضرارٍ كبيرةٍ، ولكن ومن حسن حظه لم يُحرق بيته الذي كان محاطًا ببيوت المسلمين، والتجأ وعائلته إلى صديقه المسلم الذي حماه وساعده للخروج من محنته.
توفي ميخائيل مشاقة في دمشق عام 1888م عن عمر 88 عامًا حيث ساعده العمر الطويل على معاصرة العديد من الأحداث الهامة في المنطقة.
أسلوبه في التأريخ:
يعد كتابه "الجواب على اقتراح الأحباب"، الذي صدر عام 1873م من أهم ما قدمه ميخائيل مِشاقة كمؤرخ. في الحقيقة كتب مِشاقة هذا الكتاب لسببين أولهما طلبٍ من بعض أفراد عائلته وأصدقائه ليكون حافظًا لتراث العائلة، ومن هنا جاء عنوان الكتاب كما ذكر مِشاقة في مقدمة كتابه. كان سببه الثاني هو كشف كل ما عرفه عن منطقة جبل لبنان وبلاد الشام.
يغطي كتابه قرابة قرن من الزمن قبل تولي أحمد باشا الجزار ولاية عكا ودمشق بين عامي 1775 و1804م وينتهي في سبعينيات القرن التاسع عشر.
يعتمد أسلوب مِشاقة على ذكر الأحداث التاريخية بشكل موضوعي قدر الإمكان تبعًا لأهميتها في التغيرات الحاصلة وليس تبعًا لتسلسلها الزمني فحسب، على عكس ما كان شائعًا حينها حيث اعتمد المؤرخون على تسجيل الأحداث والأخبار كيوميات تتركز على التسلسل الزمني.
ومن ناحيةٍ أخرى قدم مِشاقة الأحداث معللاَ أسبابها ومقدمًا شروحًا واقتراحاتٍ ونماذجَ للتصرف الأمثل معها، يقارب بذلك ما سماه المؤرخ هايدن وايت "بالتاريخ الصحيح". ذكر مشاقة في كتابه أنه كتب ما قد عرفه بنفسه فقط حيث قال: "لقد كتبت ما أنا متأكدٌ من صحته فقط بلا مبالغة، أما ما لست متأكدًا منه فلقد ذكرته ولكن صحته على ذمة المخبر". بالإضافة إلى ذلك أخذ مِشاقة الأحوال الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بعين الاعتبار حين نقله للأحداث، مما أعطى كتابته طابعًا أقرب لما تعامل به مؤرخي الغرب حينها، ومما لا شك فيه فقد ساعده احتكاكه بالغرب عن طريق التجارة والعلاقات الدبلوماسية الاطلاع على الأساليب الحديثة للتأريخ حينها.
يعد مِشاقة أيضًا من أوائل من ذكر مفهوم سوريا ككيان خاص واحد في كتاباته على عكس ما كان متعارف عليه حينها كبلاد الشام، فقد ذكرها عدة مرات في كتابه كقوله "أهل المدن في سوريا"، "رجال سوريا"، "السوريون".
لابد من الإشارة هنا إلى أن بعض المؤرخين المعاصرين له قد ذكروا سوريا ككيان واحد كالأمير حيدر أحمد الشهابي ابن أخ الأمير بشير الثاني وطانيوس الشدياق، ولكن مفهوم مِشاقة كان أشمل وأوضح ومُعللاً بالأسباب بالحديث عن العادات والتقاليد التي تُميز سكان هذه المنطقة الذي جعلها كيانًا موحدًا ليس فقط جغرافيًا وإنما ثقافيًا واجتماعيًا، كما كتب بلغة أهل الشام البسيطة العامية وأحيانًا أخرى بالفصحى.
من أهم الأمثلة في كتابه التي توضح أسلوبه هو حديثه عن الأمير بشير الثاني والذي كان يمثل القائد الذي تلتف حوله العشائر في سوريا -على حد تعبيره- فقد استعان به كل من واليي دمشق وعكا عند الحروب وفي الأمور الإدارية كجمع الضرائب. في الحقيقة إن شخصية اعتبارية كالأمير بشير كانت محور مؤرخي ذلك العصر حيث كتب عنه كل من الأمير حيدر والشدياق وكلاهما اتبع أسلوبًا مشابهًا في تسجيل الأحداث بشكلٍ مفصلٍ ومتسلسلٍ زمنيًا ويلاقي بعض المبالغة وخاصةً في وصف شخص الأمير بشير، الأمر الذي حاول الابتعاد عنه مِشاقة والذي كان واضح الإعجاب بالأمير بشير الثاني ولكنه كان أكثر موضوعيةً في الحديث عنه مبينًا نقاط ضعفه وقوته كحاكم.
وأخيرًا وليس آخرًا يعد نقله لأحداث عام 1860م في دمشق والجبل من أقرب الأمثلة على أسلوبه الموضوعي والتعليلي في نقل الحدث التاريخي فقد تعامل مع الأطراف المتنازعة بالتساوي في النقد والمدح والذم مشيرًا إلى دور الإدارة العثمانية في إشعال فتيل الفتنة.
هل ميخائيل مشاقة هو نفسه ميخائيل الدمشقي؟
كثر الحديث عن أوجه التقارب بين كتاب "الجواب على اقتراح الأحباب" لمِشاقة وكتاب "تاريخ حوادث جرت بالشام وسواحل بر الشام والجبل" الذي صدر عام 1843م لكاتبٍ مجهولٍ يدعى ميخائيل الدمشقي من حيث الأسلوب والأحداث وأوجه الشبه في سيرة حياة كلا المؤلفين. فقد كان كلاهما ميخائيل وبين كتاب مِشاقة والدمشقي ثلاثون سنة وميخائيل الدمشقي ذكر أنه كاثوليكي وتبعًا لما كتب مِشاقة فقد كان كاثوليكيًا قبل أن يتحول إلى البروتستانتية في عام 1848. كلا الكتابين موجودٌ في المكتبة البريطانية بنسخته الأصلية وقد حاول العديد من الباحثين مقارنة الكتابين ولكن للأسف لم يجد أحدٌ دليلًا قاطعًا على نسب كلا الكتابين لمِشاقة رغم كثرة ما يشير إلى صحة ذلك.
المصدر:
هنا