العين (الجزء الثالث والأخير)
الطب >>>> كيف يعمل جسم الإنسان؟
يمكنكم قراءة مقالاتنا السابقة عن العين وغيرها من أعضاء الجسم البشري:
هنا
توقفنا في مقالنا السابق عند السؤال:
إذا كان هناك ثلاثةُ أصبغةٍ لثلاثةِ ألوانٍ (الصباغُ الأحمرُ للون الأحمرِ وهكذا) فكيفَ ندركُ هذا الطيفَ الواسعَ من الألوانِ حولنا؟
في الواقعِ، إنَّ اللونَ الذي نراه ناتجٌ عن التأثيرِ على مجموعةٍ من الأصبغة الحسَّاسةِ للضوءِ بنسبٍ مختلفة، فعندما نرى لوناً أحمرَ فهذا يعني أنَّ الصباغَ الضوئيَّ الأكثرَ تأثراً كانَ الصباغُ الأحمرُ، وإحساسُنا بتدرُّجات الأحمرِ يعتمدُ على التأثيرِ على الصباغينِ الآخرين بنسبٍ متفاوتة، أمَّا إحساسُنا بالأبيضِ فهو ناتجٌ عن التأثيرِ على الأصبغةِ الثلاثة بالقْدرِ نفسه.
آليةُ عملِ الخلايا الحسَّاسةِ للضوء:
تتألفُ الخليةُ الحسَّاسةُ للضوءِ (سواءٌ أكانت من العصي أم المخاريط) من قطعتين: خارجيةٌ تحوي الصّباغَ الحسَّاسَ للضوء، وداخليةٌ تتصلُ مع الخلايا ثنائيةِ القطب (التي تصلُ بين الخلايا الحسَّاسةِ للضوءِ والخلايا العقدية). تُحاط هذه الخلايا - كما هو الحالُ بالنسبةِ لكلِّ الخلايا في جسمنا- بالغشاءِ الخَلوي الذي يفصلُ الخليةَ عن المحيطِ الخارجي؛ وعلى جانبي هذا الغشاءِ توجدُ مجموعاتٌ مختلفةٌ من الشواردِ الموجبة والسالبةِ وتَغيُّرُ تراكيزِ هذه الشواردِ سيحدِّدُ ما ستفعله الخلية في المرحلة القادمة (التي سنتحدَّث عنها بعدَ قليل). وفي هذا الغشاءِ بواباتٌ، تسمحُ بخروجِ أو دخولِ هذه الشواردِ عندما تكونُ مفتوحةً وتمنعُها عندما تكونُ مغلقةً، وداخلُ الخليةِ أنزيماتٌ، وهي بروتيناتٌ تتوسَّطُ (تُشرِف على) التفاعلاتِ الكيميائيةَ في الجسم، يهمُّنا منها الآن الأنزيمُ المُسمى الـ GuanylylCyclase الذي يُحوِّل مادةً تُسمَّى الـ GTP(غوانوزين ثلاثي الفوسفات) إلى cGMP(حلقي غوانوزين أحادي الفوسفات) الذي يستطيعُ أنْ يفتحَ البواباتِ التي تحدَّثنا عنها قبلَ قليل، وفتحُ هذه البوابةِ يؤدي إلى دخولِ شواردِ الصوديوم والكالسيوم إلى داخلِ الخليةِ ما يؤدي إلى حالةِ "إزالة استقطاب" derpolarization أي يصبحُ فرقُ الكُمون (وبتعبيرٍ أبسط لغير المختصين يُمكننا أن نستبدلَ بفرقِ الكُمون عبارة "فرق الشحنات الكهربائية") صغيراً. هذا كله يجعلُ الخليةَ تطلقُ مادةً كيميائيةً إلى الوسطِ المحيط (إلى الخلايا ثنائية القطب بالتحديد) هي الغلوتامات glutamate التي سنرى دورَها فيما بعد.
أمّا عندما يكونُ هناك ضوءٌ، فإنَّ الأصبغةَ الحسَّاسةَ للضوءِ تتفكَّك وتعطي الأوبسين الذي يحفِّزُ أنزيماً آخر هو الترانسدوسين transducin، ما وظيفتُه بالتحديد؟ فلنتذكر أنَّ الـ cGMP يفتحُ البواباتِ الموجودةَ في الغشاءِ الخلوي، وظيفةُ الترانسدوسين هي تفعيلُ أنزيمٍ آخرَ يمنعُ الـ cGMP من ذلك عن طريق تحويله - أي تحويل الـ cGMP- إلىGMP الذي لا يستطيع التعامل مع تلك البوابات.
يؤدي هذا كلُّه إلى حالةٍ مُعاكسةٍ لما يحدثُ في الظلام، إذ يؤدي إلى فَرطِ الاستقطاب hyperpolarization الذي يقلّلُ بدوره من كميةِ الغلوتاماتِ المنطلقة.
Image: Vander’s Human Physiology
ما يحدث في الخلية المخروطية (وهو ذاته تقريباً في العصي) عند التعرض للمنبه الضوئي أو عند غيابه.
والآن، نحنُ على مفترقِ طرقٍ، فسواءٌ أكانت الخلية من العصي أم المخاريط، فأمامها سبيلان يُمكنُ أنْ تشاركَ فيهما وهما سبيل ON/OFF (تشغيل/إطفاء)، فما الفرقُ بينهما يا تُرى؟!
يتمثَّل الفرقُ في التأثيرِ الذي سيُحدَث في الخلايا العُقدية، ففي السَّبيل ON يؤدي نقصُ إطلاقِ الغلوتامات إلى التأثيرِ على الخلايا ثنائيةِ القطبِ بآليةٍ معينةٍ تجعلُها تحفّزُ الخلايا العُقديةَ على تشكيلِ السيالاتِ العصبيةِ (والسيالةُ العصبيةُ هي نبضةٌ كهربائيةٌ ترسلُها الخليةُ للتواصلِ مع الخلايا الأخرى).
أمَّا في السبيلِ OFF فإنَّ نقصَ إطلاقِ الغلوتامات يؤدي إلى التأثيرِ على الخلايا ثنائيةِ القطبِ بآليةٍ معاكسةٍ لآليةِ الطريقِ ON ما يؤدي إلى تقليلِ السيالاتِ العصبيةِ التي تُنتِجُها الخلايا العُقدية.
ووجودُ هذين السبيلين في مناطقِ الشبكيةِ كافةً يُسهم في توفيرِ رؤيةٍ واضحةٍ.
بعد ذلك تجتمعُ محاويرُ الخلايا العُقدية لتشكُّلَ العصبَ البصريَّ الذي ينقلُ هذه السيالاتِ إلى الدماغ، وتجدُرُ بنا الإشارةُ هنا، إلى أنَّ الصورةَ على الشبكيةِ تكونُ مقلوبةً رأساً على عَقِب، لكنَّ الدماغَ يعملُ على تصحيحِها.
من الأمراضِ الشائعةِ التي تتعلَّق بالأصبغةِ الحسَّاسةِ للضوء، مرضُ عمى الألوانِ الذي يُعاني منه مؤسِّسُ موقعِ facebook مارك زوكيربيرغ وقد تحدَّثنا عن هذا الموضوعِ بتوسّعٍ إلى حدٍّ ما في هذا المقالِ سابقاً:
هنا
وباختصارٍ، إنَّنا نملكُ ثلاثةَ أصبغةٍ في المخاريطِ هي أصبغةٌ للونِ الأخضرِ والأحمرِ والأزرق، وغيابُ أحدِ هذه الأصبغة يؤثِّرُ على رؤيتنا للونِ الموافق لها، فقد لا نرى اللونَ نفسَه بل أحدَ تدرُّجاتِه أو لوناً مختلفاً تماماً، أشيعُ أشكالِ عمى الألوانِ هو عمى اللونِ الأحمرِ والأخضرِ وهو مرضٌ وراثيٌّ يصيبُ الذكورَ أكثرَ من الإناث، توجدُ المورثاتُ المسؤولةُ عن تشكيلِ الصباغَين الأخضرِ والأحمرِ على الصبغي X****، فعندما تتخرَّبُ هذه المورثاتِ يُصابُ الإنسانُ بعمى اللونينِ الأخضرِ والأحمر. لدينا أيضاً عمى اللونِ الأزرقِ وهو مرضٌ وراثيٌّ، وسببُه حدوثُ طفرةٍ أو خللٍ في المورثةِ المسؤولةِ عن تشكُّلِ الصِّباغ الأزرقِ الموجودِ على الصبغي 7(1) (2).
وبوصولِنا إلى الجزء الأخيرِ من المقال، أجدُ نفسي مدفوعاً إلى التحدِّثِ عن حالةٍ مرضيةٍ قد تبدو غريبةً إلى حدٍّ ما تتعلَّقُ بالرؤيةِ، لا بالعينِ نفسها.
يعرفُ الجميع تقريباً أنَّ العمى هو فقدانُ البصرِ، أما العَمَه البصري، فقد لا يبدو مألوفاً لمعظمِ الناس!
يستطيع المصابُ بالعَمَه البصري أن يرى، لكنَّه لا يستطيعُ تمييزَ ما يراه، في كتابِ أوليفر ساكس الرائع: "الرجل الذي حَسِب زوجتَه قبعةً The Man who Mistook his Wife for a Hat" يتحدَّثُ الكاتبُ عن حالةِ عمهٍ بصريّ مميزةٍ تصيبُ أحدَ الموسيقيين البارعين، فيرى هذا الموسيقي زوجتَه، لكنَّه يعتقدُ أنَّه يرى شيئاً آخرَ، إنَّه يحسبُها قُبَّعَتَه، ولذلك يحاولُ أن يرتديَها!! ليست كلُّ الحالاتِ بهذه الغرابة، لكنَّ هذا المثالَ يوضحُ هذا المرضَ جيداً؛ وسببُه غالباً هو إصابةٌ في القشرةِ الحسيةِ البصريةِ في الدماغِ المسؤولةِ عن معالجةِ المعلوماتِ البصرية(7).
في الواقع، إنَّ فيزيولوجيا العينِ أمرٌ واسعٌ ومتشعبٌ جداً ومتجددٌ باستمرارٍ، ولا يُمكن تغطيتُه في مجموعةِ مقالات، فعلى سبيل المثال؛ اكتُشِفَ حديثاً في الخلايا العُقدية صباغٌ يُسمَّى الـ melanopsin قد تكون الخلايا الحاملةُ له مسؤولةً عن نقلِ معلوماتٍ إلى المناطقِ في الدماغِ المسؤولةِ عن "السَّاعة البيولوجية" التي تنظّم لنا فترةَ النومِ والاستيقاظ. أمرٌ مثير! أليس كذلك!
الحاشية:
* العضلاتُ الملساء: تُقسَمُ العضلاتُ في الجسمِ تبعاً لبنيتِها النسيجية (التي تُرى تحت المجهر) إلى ثلاثةِ أنواعٍ أوّلها العضلاتُ المخططةُ الإراديةُ التي تملكُ بنيةً منظمةً من أليافِ الأكتين والميوسين بحيث تبدو على شكلِ حِزَمٍ أو خطوط، وثانيها العضلةُ القلبية، وهي عضلةٌ مخططةٌ لكنَّها لاإراديةٌ تشبُه في بنيتِها العضلاتِ المخططةَ الإرادية، وثالثُها: العضلاتُ الملساءُ وهي عضلاتٌ لاإراديةٌ تحوي على الأكتين والميوسين لكنَّهما ليسا منظَمَين كما في النوعين السَّابقين أي أنَّها لا تمتلكُ المظهرَ الحزمي (الذي يحوي الحزمَ أو الخطوط) عندما ندرسُها تحتَ المجهر.
**الطولُ الموجي: الأشعةُ الكهرومغناطيسية عبارةٌ عن سيلٍ من الفوتوناتِ، والمسافةُ بين فوتونين متتاليين تُسمَّى طولَ الموجة.
***المحاوير: Axons عبارةٌ عن استطالاتٍ ثابتةِ القطرِ تمتدُّ من جسمِ الخليةِ العصبيةِ، ومَهمَّتُها نقلُ السيالةِ العصبيةِ بعيداً عن الخلية (أي من الخليةِ العصبيةِ إلى خليةٍ عصبيةٍ أخرى أو خليةٍ غُديةٍ أو عضليةٍ أو..).
****الصبغيات: تجمعاتٌ للمادةِ الوراثيةِ (الجينية) الخاصَّةِ بخلايا الإنسان، توجد في خلايانا على هيئةِ 23 زوجاً من الصبغيات (نصفُها من الأب والنصفُ الآخرُ من الأم)، تتألَّفُ المادةُ الوراثيةُ من المورثاتِ التي تُشرِفُ على تصنيعِ البروتيناتِ التي تُنظَّم بدورِها عملَ الجسمِ وتوفّرُ له وحداتِ بنائه.
المصادر:
Vander’s Human Physiology، The Mechanism of Body Function، 13th edition، Eric P. Widmaier and others، P207-217
Guyton and Hall Textbook of Medical Physiology، 12th edition، P597-632
Langman’s Medical Embryology، 12th، T.W. Sadler، P329
هنا
هنا
هنا
هنا
هنا
هنا
هنا
هنا