كيفَ تآمر َأينشتاين وشرودنجر معاً لقتلِ القطّة؟ الجزء الثاني
الفيزياء والفلك >>>> فيزياء
في شهرِ أيار/مايو عام 1935، قامَ أينشتاين، بالاشتراكِ مع اثنين من زُملائِه الأصغرُ سناً منه في معهد الدّراسات المُتقدّمة أوريس بودولسكي OrisPodolsky وناثان روزن Nathan Rosen، بنشرِ ورقةٍ بحثيّةٍ تدعي أنّ نظريةَ ميكانيكِ الكمِّ لم يكتملْ بعد، وتحدَثُوا عن وجودِ ما يُطلقُ عليه بـ "عناصر الواقع"، وهي عبارةٌ عن مقاديرٍ أو خصائصَ محددةٍ للأجسامِ الفيزيائيّة، على عكس ميكانيك الكم الّذي كانَ يزودنا بالاحتمالاتِ فقط.في شهر يونيو، كتب شرودنغر رسالة لآينشتاين من أجل تهنئته على ورقته البحثية، مُشيدًا بطرح أينشتاين. وبعد عشرة أيام ردّ آينشتاين على شرودنغر برسالةٍ قال فيها أنهُ يَجِبُ أن يوضع حدٌّ لنظرية الكم التي تعتمد فيها المعرفة على الاحتمالات.
أنتجت هذه الأفكار البراعِم الأولى لقصةِ القِط الّذي وُلِدَ لاحقًا. ففي بريدٍ وجَههُ إلى شرودنغر، طلب اينشتاين من صديقِه أن يَتخيّل صندوقين مُتطابِقين مُقفلين،وأنَ كُرةً قد وُضِعَت في إحدى هذين الصندوقين. إن احتمال العثور على الكرة في الصندوق الأول، قبل فتحه هو 50%، هل يمكن اعتبار هذا الاحتمال وصفا دقيقا للواقع؟
شكك أينشتاين بأن يكون هذا وصفًا كامِلاً للواقِع، واعتقد بأنه من أجل الحصول على نظريّة صحيحة تصفُ العالم ما دون الذري، ينبغي أن تكون هذه النظرية قادرة على حساب قيم مُحددة. فحِسابُ الاحتمالات فقط بالنسبة لآينشتاين هو التوقف في منتصف الطريق.
وبتشجيع من ردِّ شرودنغر المُتحمّس، دفعَ أينشتاين السيناريو الى منحى آخر، تخيّل فيه وجودَ بعض البودرة المُتفجّرةَ غير المستقرّة التي من غير المُرجَّح أنْ تَنفجِرَ خِلال عَام. يمكنُ تطبيقِ معادلةِ شرودنغر (معادلة الموجة في ميكانيك الكم) على هذه الحالة في البداية. إذ لا نعلم إن كان البارود سينفجر أم لا. لكن إن عُدْنا بعدَ عامٍ لنرى ماذا حَصلَ للبارود، سنكونُ أمامَ احتمالين: إمّا أنْ يكون قد انفجّرَ أو لم ينفجر بعد. وهنا، تبعًا لاينشتاين، لا بدّ للطبيعة أنْ تختارَ إحدى هاتين الحالتين، ولا يوجدُ خياراتٌ أخرى بينَ هذين الخيارين.
كان بإمكان اينشتاين أن يُقدم الكثيرِ من الأمثلةِ لانتقادِ توصيفِ ميكانيك الكم بلُغةِ الاحتمالات، لكنَّ استحضارَه لتشبيهِ البودرةَ المُتفجرةَ يعكس تدهور الوضع في أوروبا.
بعد أسبوع ونصف من تلقي رسالة آينشتاين حول البارود المتفجر، بدأ شرودنغر كتابة مقال طويل من تلقاء نفسه، بعنوان " وضع ميكانيكا الكم الحاليّ"، وفي هذا المقال طوّر شرودنغر الرواية. فبدلا من البارود، أصبح هناك قط !
في حجرةٍ فولاذيةٍ صغيرةٍ محكمةِ الإغلاق، حُبِست القطّة مع كميّةٍ صغيرةٍ جداً من اليورانيوم، ووُضِعَ ضمنَ الصندوقِ أيضاً عدادُ غايجر، المُجَهَّز للكشف عن الإشعاعات النووَّية فورَ صدورِها عن المادّة المُشعَّة. وبما أنَّ كميّةَ المادّة المُشعَّة صغيرةٌ جداً، يكونُ احتمالُ تفكُّكِ ذرّةٍ ما منها مساوٍ لاحتمالِ عَدَمِ تفكُّكِ أي ذرّةٍ. ووُضِع أيضاً مفتاحا خاصا، سيؤدي إلى تحطيمِ الزجاجةٍ المليئةٍ بالسُّمِّ والموضوعةٍ بداخلِ القفص، عند تلقّى أي إشعاعٍ ناتجٍ عن المادّة المُشعَّة.
تبعًا لميكانيك الكم، فإن القطة حية وميتة بنفس القدر. أُعجِب أينشتاين بهذا السيناريو وكتب في رده : "تُظهِرُ قطتك بأننا مُتفقان تمامًا"، وأضاف: "لا يمكن اعتبار الدالةِ الموجية 𝟁 الّتي تعتبر القطة حية وميتة بالقدر ذاته، على أنها توصيفٌ دقيق للحالة".
بعد بضعة أشهر، من رد أينشتاين على رسالة شرودنغر الّتي شرح فيها قصّة القطة، قدّم شرودنغر مسودةً حول مثال القط الى مجلة العلوم الطبيعية الألمانية الشهيرة Naturwissenschaften، ولكن المسودة لم تُطبع آنذاك. فقد طُرِدَ رئيس تحرير المجلة، الفيزيائي اليهودي أرنولد برلينر، بسبب الأحداث السياسية في ذلك الوقت. وقرر شرودنغر أن يسحب مسودته احتجاجًا، ولكنه تراجع عن ذلك بعدَ أن توسط برلينر نفسه بين شرودنغر والمجلة.
في ذلك الصّيف، لم يكن شرودنغر حزينًا بسبب إساءة مُعاملة الفيزيائي اليهودي بريلنر فقط، بل كان حزينًا بسبب الحالة الّتي وصلت إليها البلاد. ولم يُخفي موقِفَه المُعارضَ للنِظام النّازي، ولكنه أُجبِرَ في النّهايةِ على الرّحيلِ عن برلين، فذهبَ إلى أوكسفورد في بريطانيا ليعَمِلَ هُناك. وبعد عدة أشهر على وصوله إلى أكسفورد، تحدّث أحد أصدقاء شرودنغر للصحافة، عن مدى تعاسته، وكيف ضاعف الضغط النفسي المرافق لنزوحه من كآبته.
وفي عام 1935، ألقى محاضرةً مُدَّتُها 20 دقيقة على راديو BBC،بعنوان: "المُساواةُ والنّسبيّةُ في الحُريّة"، تكلّمَ فيها عنْ أهميّةِ العلمِ والسّلاحِ في تحريرِ البلادِ من القمعِ السّياسي. وفي الوقت الّذي نحارب فيه الفاشية، لا عجب من انتقال الحديث عن الكرات داخل الصناديق، إلى الحديث عن البارود والمتفجرات والحياة والموت.
عندما كانَتْ ورقتُه قيدَ النّشر، قامَ شرودنغر بمراسلةِ العالِمِ بور وعلماءَ آخرين حتى يفهمَ منهم كيفَ يتقبَلونَ تلكَ الأفكارِ الغريبةِ التي تكتنِفُ ميكانيك الكم. لقد كانَ أينشتاين و شرودنغر مُتلهفَيْنِ لمُقابلةِ العالِمِ بور شخصيّاً، وللتكلّمِ معَه. لكن، لم يكنْ هناكَ وقتٌ كافي لمثلِ هذه اللّقاءاتِ.
الكثيرُ من الأسئلةِ الجوهريّةِ الجديدةِ كانَتْ تُطرَحُ كلَّ يومٍ، وتزدادُ معها مخاوِفُ شرودنغر من كونِ احتماليّةِ ميكانيك الكم صحيحةَ، والسؤال الأصعب المطروح: إنْ كانَتْ احتماليّةُ ميكانيكِ الكمِّ صحيحةً، ماذا سوف يفعل عُلماء الفيزياء خلالَ الـ 5 و 10 سنوات القادمة بما أنّ العيشَ في عالمِ الاحتمالاتِ لنْ يتركَ أيّ داعٍ لوجودِ عُلماءِ الفيزياء؟
استمرّت الأوضاع في أوروبا بالتدهور. فبعد سنوات قليلة على حكاية شرودنغر عن القط الكمي والحامض البروسي القاتل، بدأ النازيون باستخدام الغاز السام ذاته المُسمّى تجاريًا "زيكلون ب"، في غرف الغاز الوحشية. وفي مارس 1942، وقبل ترحيله المحتوم إلى معسكرات الاعتقال، انتحر رئيس التحرير السابق أرنولد برلينر، مختارًا بذلك نهايةً محددة، بعيدًا عن الاحتمالات.
مع مرورِ الوقتِ، أصبحَتْ القصّةُ التي كتبَها شرودنغر لينتقد احتماليّة ميكانيك الكم، أحد أشهر الأمثلة التي توظّف لمساعدة ِ الطّلابِ على فهمِ هذه النظريّة. فالفكرةُ الأساسيّةُ من ميكانيك الكم، أنّ الجسيماتِ ما دون الذريّة يُمكن أنْ تكون في "حالة تراكب"، تمتلكُ من خلالِها خصائصَ متعاكسة في وقتٍ واحدٍ. فهي لا تتّخذ قرارات (إما، أو) كما في حياتنا اليوميّة؛ بل قرارات (و، معاً).
ومعَ مرورِ العُقود، تمكّنَ الفيزيائيون من مُحاكاةِ قطّةِ شرودنغر في المَخابر، وتمكّنوا أيضاً من تأكيدِ وجودِ جُسيماتٍ في حالةِ التراكب، ومن دراسةِ خصائصِها. وعلى الرغمِ من تحفظاتِ شرودنغر،فإنّ كل التّجاربِ المخبريّةَ أكّدَتْ مراراً وتكراراً على الطّبيعةِ الاحتماليّة لميكانيك الكم.
مازالَتْ قطّة شرودنغر ذاتِ المصيرِ المزدوَجْ إلى اليوم، مثالاً يُوَضِّحُ فكرةَ الطبيعةَ الاحتماليّةَ لميكانيكِ الكم بدلاً من أنْ ينقُضَها، وما تزالُ الطبيعةُ الاحتماليةُ صعبةُ الفهمِ على الكثيرين حتى يومنَا هذا.
المصدر: هنا
كيفَ تآمر َأينشتاين وشرودنجر معاً لقتلِ القطّة؟ الجزء الأول هنا