مراجعة رواية (شرق المتوسط): شرق الشقاء ومتوسط اللاعودة.
كتاب >>>> روايات ومقالات
قدّم "منيف" هذه الرّواية بأسلوبٍ تقنيّ جميل، فهو لم يكتفي بتقنيّة (الارتجاع الفنّي) بل مشى بالرّواية من الزّمن الحاضر للسرد مع تقنيّة الارتجاع مقدّمًا عزفًا أدبيًا جميلًا، فلا يشعر القارئ أبدًا بأنّه قد ضاع بين الأزمنة تلك، زمن الاعتقال وزمن الثّورة وزمن الحاضر وزمن السّفر وزمن إطلاق السّراح. وأضفى على ذلك كلّه سردًا بلسانِ أكثر من راوٍ! فنرى "رجب" الرّاوي الأوّل في فصولٍ معيّنة جنبًا إلى جنب مع "أنيسة" الرّاوي الأوّل أيضًا في فصولٍ أخرى.
"شرق المتوسط" هذه المنطقة الملعونة، قد تعيش فيها حياةً أو أكثر دون أن تشعرَ ولو للحظةٍ أنّ هنالك شيئًا عفنًا يحدث بالقربِ منك، تمرّ بالقرب منه كلّ يوم دون أن تفكّرَ ما الذي يحدث في هذا المكان؟ ربّما أنت بالفعل لم تفكّر ولو لمرّةٍ واحدة عن طبيعة هذه الأمكنة وما الذي يحدث في عنابرها وسراديبها، ولربّما لم ترغب يوماً بأن تفكر! ولكنّ الشيء الوحيد المؤكّد هو أنّه بعد مرورك على شرق المتوسط، ستتسع حدقات عينيك وتبدأ برؤية ما أعميتَ نفسك عنه لسنين.
رواية الشّقاء تبدأ بنظرةٍ تاريخيّةٍ علميّة، أو كما سماها الكاتب "تبرير فلسفيّ أبله" عن حيوانٍ يُدعى "الإنسان"، حيوان اخترع القتل والإجرام واعتاد عليه حتّى أصبح ينام على مجزرة ويستيقظ على أخرى، مجازرٌ يرتكبها بكامل إرادته مع سبق الإصرار والتصميم.
منذ الصّفحات الأولى يقتحم القارئ حياة "رجب"، ذلك الشّاب الثّوري الممتلئ بالحماس، الّذي يكره أن يجيبَ عن الأسئلة، المليء بالعنفوان والشّجاعة، العاشق الّذي لطالما أحبّ "هدى"، الشّاب الّذي أراد أن يغيّرَ العالم وهو مدرك في داخله مدى صعوبة الأمر.
ولكن لحظة واحدة، أيّ "رجب" هذا الّذي نتحدّث عنه؟ هذا ليس "رجب" الّذي سنراه في بدايةِ الأمر. للأسف إنّه "رجب" الماضي الّذي مات ولن يعود. "رجب" الحاضر لم يعد شاباً، هو الشّقاء والضّباب والدّماء المليئة بالروماتيزم، الجّسد المليء بحروق السّجائر وخرائط التّعذيب، هو "صاحب التّوقيع والحبر الكريه".
أيّ عذاب تحمله "رجب" وأيّ ذل وإصرار وإرادة أظهر طوال هذه السّنين، ولكن ما الّذي حدث وغيّر كلّ هذا؟ ما الّذي كسر إرادته وشوّه تصميمه؟ ما الّذي خصى رجولته بعد أن كانَ ثوراً يقتلع كل شيء أمامه؟ هل جسده خانه أم أنّه خان نفسه وخان سنين العذاب وخان كل من وقف إلى جانبه ووقف هو إلى جانبهم؟
كلّ هذه الأسئلة ستنتاب القارئ، مثلما انتابت بطلنا من قبل، سيحاول القارئ وضع نفسه مكان "رجب" ويحاولُ الإجابة عن الأسئلة، سيحاول أن يجدَ المبرّرات والأسباب قبل أن يُصدرَ الاتّهامات، وفي نهايةِ المطاف سيصل القارئ للإجابة، سيصل لأم رجب، أمّ رجب القشّة الّتي قسمت ظهر البعير. هذه الأم المتكوّمة لساعاتٍ في زوايا السّجن المتجمّدة وأمامها سلّة فيها إرادة وثبات، كانت هي زاد "رجب" الوحيد، زاده بالقوة والحنان والجنون، هذه الأمّ الّتي تحمّلت الشّتائم والعقبات والخنادق الّتي رشقها الآغا وكلابه في وجهها كلّ مرة تأتي فيها للسجن، "أم رجب" آلهة الإرادة والبكاء.
"أنيسة" أخته لا تشبه أمّها بشيء، كتلة الطّيبة والضّعف والوهن والاستسلام. رغم أنّها احتملت أكثر مما تحتمله أيّ امرأة في سنّها، كانت تواجه الطّلاق مع زوجها كما واجهت الشّرطة وبذائتهم، ولكنّ الشّيء الوحيد الّذي برعت فيه هو "فن الانتظار"، لقد انتظرت أكثرَ من أيّ امرأة أخرى، انتظرت أخيها وهو في السّجن وانتظرته حين خرج، انتظرته حين ينام وحين يستيقظ وحين يسافر، انتظرت زوجها وأطفالها، انتظرت السعادة والفرح، انتظرت كلّ شيء ولم تنتظر نفسها!
"أنيسة الّتي دمّرت حياتي ، جعلت أيّامي الأخيرة في السّجن جحيمًا. كانت تنقل إليَّ حقارات العالم الخارجي وانتهاءه!".
أما "هدى" أقوى الآمال والمبتغى الوحيد من العالم الخارجي من عالم الحريّة، هي أيضاً حاولت أن تنتظر ولكن لم تتقن هذا الفن، "هدى" الّتي حطّمت أسطورة الأميرة المنتظرِة لفارس أحلامها لكي يتحرر من الأسر، الّتي طعنت قلب فارسها بنصلٍ حادّ يفوقه طولاً، ووجّهت ركلة حجريّة لمركز رجولته.
ومثلما كان يقول صديق رجب : "السّجن والمرأة لا يجتمعان، وبداية انهيار السّجين أن يسيطرَ عليه شبح امرأة. كفّوا عن هذا المرض أيّها الثيران... اخصوا أنفسكم لينتهي عذابكم!".
ما الّذي أراده "عبد الرحمن منيف" منّا نحن القرّاء؟ أيّ رسالة أراد إيصالها إلينا وأيّ سؤال أرادنا الإجابة عليه؟ كيف تُرمِّم إرادةَ إنسان لم يعدْ يربطه بالعالم الخارجيّ أيّ رابط؟ كيف تدفع الأمور إلى نهايتها وإلى حدودها القصوى؟ كيف تكسر إرادة الإنسان وكيف يسقط؟
أم هل كان سؤاله أكثر فلسفة وتعقيدًا عن جذور طبيعة الإنسان وطبعه وما الّذي يدفعه للوصول للمراحل القصوى في أيّ أمرٍ كان؟
شرق المتوسط ستطرح الأسئلة ولن تقدّم الأجوبة، شرق المتوسط رواية التساؤلات، رواية لا تعني أحدًا وتعني كل الناس أيضًا.
معلومات الكتاب:
- الكتاب: شرق المتوسط.
- تأليف: عبد الرحمن منيف.
- تصميم الغلاف: رياض عبد الكريم.
- دار النشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت.
- الطبعة الأولى: 1975 ، الطبعة الرابعة : 1981.