أنت كعكة Donut! كيف وظّفت الفيزياء مباديء الطبولوجيا؟
الفيزياء والفلك >>>> فيزياء
تُفسِّر الطّبولوجيا أيضاً السّلوك الكمّيّ الغريبِ للموائع الفائقةِ والنّواقل الفائقة، ممّا مكّن العُلماء من ابتكار موادَّ جديدةٍ وغريبة لم تخطر ببالهم من قبل. ويعتقدُ بعض العُلماءِ أنّ الطّبولوجيا هي مفتاح لُغزِ النّظريّة الشّاملة الّتي تصِفُ الكونَ برمّته.
لكن ما هي الطّوبولوجيا بالضّبط؟ وما علاقتها بالفيزياء؟ إليك ما تحتاج لمعرفته.
الأعدادُ الصّحيحة:
يُصنّف عُلماءُ الطّبولوجيا الأشياءَ وفقاً لخصائِصَ مُعيّنة لا تتغيّر؛ كعدد الثّقوب فيها، فعلى سبيل المثال فإنّ هيكل الكُرة والمكعّب وفقاً للطّبولوجيا متماثلان، لأن كليهما لا يحتويان أيّ ثقوب.
وكما تقولُ النّكتة الرّياضيّة: "الطّبولوجيّون هم الّذين لا يُفرّقون بين كعكةِ الدّونات وكوبِ القهوة، فكلاهما يحتوي ثُقباً واحداً".
الأهمّ من ذلك هو أنّ عددَ الثّقوبِ ينبغي أن يكونَ عدداً صحيحاً (مثل صفر، واحد أو اثنين). لا يمكنكَ أن تصفَ شكلاً بأنّه يحتوي نصفَ ثقبٍ أو ثُلثَ ثقب. يطلقُ العلماءُ على عدد الثّقوب في الشّيء اسم "الثّابت الطّوبولوجيَ"، لأنّه لا يُمكِنُ تغييره دونَ تمزيقِ بُنيةِ هذا الشيء.
ورغمَ أنّ هذهِ الأفكارَ والمبادئ الطّوبولوجيّة بدأت في الرّياضيات، لكنّها ألهمت الفيزيائيين، لأنّ العديدَ من الأنظمةِ الفيزيائيّة تمتلكُ خصائص متشابهة "ثابتة"، ممّا جعلهم يَرون الكونَ والمادّة من منظورٍ جديد.
تتصرّف بعضُ الأشياء بشكلٍ أساسيّ بطريقةٍ مُعيّنة بناءً على شكلها، مثل:
الموائع الفائقة Superfluids:
بينما يتدفقّ الماءُ بحريّةٍ وسلاسةٍ من الصّنبور، يقطرُ العسلُ ببطءٍ مِن المِلعقة. يكمنُ الفرقُ بين الحالتين في مدى سهولةِ تدفّق كلّ من هذين السّائلين، وهذا ما يدعوه العلماء باسم "اللزوجة". تختلفُ لزوجةُ كلّ سائلٍ بحسبِ الطّريقةِ الّتي تصطدمُ بها جُزيئاتُه وتتشابكُ مع بعضها البعض. لكنّ الموائعَ الفائقة الّتي ننوي الحديث عنها ليست لزجةً على الإطلاق، ممّا يجعلُ جزيئاتها تَتدفّقُ بحريّةٍ كاملةٍ دونَ أيّة مقاومةٍ على الإطلاق.
يُمكن للهيليومِ السّائِل أن يتصرّف بهذهِ الطّريقةِ عندما يُبرَّد إلى بضعِ درجاتٍ فوقَ الصّفر المُطلق (الصفر المطلق يساوي -273 درجة مئوية). في هذه الحالة تتبنّى ذرّاته ما يُشبه التّفكيرَ الجماعيّ، فتتصرّف جميعاً كما لو كانت ذرّةً واحدة. والنّتيجة هي أنّك لو تمكّنت من تحريكِ وعاءٍ من الهيليوم السّائل كما تحرّك السّكّر في كوبِ الشاي، فسوفَ تتشكّل دوّامةٌ في هذا المائعِ الفائق تدورُ إلى الأبدِ دون إبطاء.
في سبعينات القرن الماضي لاحظَ العالمانِ ديفيد ثولِس ومايكل كوستِرلز( الفائزَين بجائزةِ نوبل للفيزياء عام 2016)، أنّه في بِركَةٍ رقيقةٍ جدّاً (أحاديّة الأبعاد) من سائل الهيليوم المُبرّد، تتشكّلُ أزواجٌ من الدوّامات الصّغيرةِ الّتي قد تقترن ببعضها أحياناً إذا كانت تدورُ في اتّجاهين متعاكسين، مثلَ تِرسَي تعشيقٍ مرتبطينِ في ناقل حركة السّيّارة.
لكن إذا تجاوزت حرارةُ هذا المائعِ درجةَ حرارةٍ محدّدة، فإنّ هذه الدّوامات تفُكّ الاقتران فيما بينها، وتبتعدُ عن بعضها البعض. إذاً يتغيّر سلوكُ سائل الهليوم عند هذه الدّرجة، ويخضعُ لِمرحلةٍ انتقاليّة طوبولوجيّة.
يُمكننا القول إنّ مادّةً ما انتقلت من مرحلةٍ لمرحلةٍ جديدة عندما تتغيّر خصائِصُها، كما في حالة الماءِ عندما ينتقلُ من الحالةِ السّائلة إلى الحالة الصُّلبة عند تبريدهِ بما فيه الكفاية، أو كما في الحالة الّتي ينتقلُ فيها طفلكُ من صغيرٍ هادئٍ ووديعٍ إلى نوبة غضبٍ عارمة.
وظّف الفيزيائيّونَ هذه الأفكارَ في الكثيرِ من البحوثِ والدّراسات الفيزيائيّة، حتّى أنّ نظريّة الجاذبيّة الكموميّة (المرشّح المحتملَ لتكون "نظريّة كلّ شيء")، تتعامل مع الفراغ Vacuum كنوعٍ من الموائع الفائقة.
تأثير هول الكميّ Quantum Hall Effect:
تَتَحدّدُ العلاقَةُ بين التّيّار والجُهدِ اعتماداً على خاصيّة من خواصّ المادّة تُعرفُ باسم "المقاومة". يُمكنُ تصوّر الأمرِ على أنّه مدى الاحتكاكِ الّذي يمنعُ الإلكتروناتِ من التدفّق بحريّةٍ عبر المادّة.
في ثمانينات القرن الماضي وجدَ علماءُ الفيزياءِ تأثيراً محيّراً يتحدّى المقاومة، وتحديداً في الموادَ المُسطّحة (أحاديّة الأبعاد) يُسمّى "تأثيرَ هول الكموميّ"، ويؤدّي هذا التّأثيرُ إلى خرقِ العلاقةِ بين التّيّار والمادّة، إذ تبدّلت المقاومةُ بالتّدريجِ على شكلِ قفزاتٍ ثابتة مهما كانت المادّة المُستخدمة.
تُفسّر الطّوبولوجيا هذه القفزاتِ على أنّها نتيجةُ ارتباطِ الإلكتروناتِ معاً في الموادّ مُشكّلةً موائعَ كموميّةٍ تُشبه الموائعَ الفائقة، ويتحدّد سلوكُ هذه الإلكتروناتِ فقط تبعاً لِشكلِها، وليس تبعاً لطبيعةِ المادّة الّتي تتحرّك ضمنها.
النّاقليّة الفائقة Superconductivity:
تنقُل الموصِلات الفائقةُ التيّار دونَ أيّة مُقاومةٍ على الإطلاق. وكما يمكن للموائعِ الفائقةِ أن تدورَ في دوّاماتٍ قد تستمرّ للأبد، يُمكِنُ للنّواقل الفائِقةِ أن تنقل التّيارات إلى ما لا نهاية.
يُمكنُ الاعتماد على هذه الحلقاتِ اللانهائية في نقل البتّات الكميّة Qubits؛ الّلبِنات الأساسيّة لأجهزةِ الحاسب الكمومي.
وبنفسِ الطّريقة الّتي تقترنُ بها دوّامات الموائعُ الفائقة، يُمكنُ أن تقترنَ الإلكتروناتِ على شكلِ أزواجٍ في النّواقل الفائقة، ممّا يمنحها تذاكرَ مجانيّة للسّفر في رحلاتٍ مجانيّة لا تنتهي. مرّةً أخرى، للطّوبولوجيا أهميّةٌ بالغةُ لفهم هذا السّلوك.
العوازلُ الطّوبولوجيّة Topological Insulators:
إنها أغرَبُ أنواعِ الموادِّ المُكتشفةِ خلال السّنوات الأخيرة، وتكمنُ غرابُتها في أنّها ناقلةٌ وعازلة.
تكون الإلكتروناتُ داخلَ المادّة محصورةً في مواقعَ محليّةٍ محدودة، ولكنّها تتحرّك بحريّةٍ أكبرَ على السّطح الخارجيّ للمادّة.
مرّة أخرى، ينشأ هذا السّلوك المُتناقضُ اعتماداً على شكلِ الإلكتروناتِ واقترانها معاً كما في حالةِ دوّامات الموائع الفائقة، هكذا تُفسّر الطّوبولوجيا الأمر.
نظريّة الأوتار String Theory:
في عالمِ نظريّة الأوتار الفائقة العجيب، يُحاوِلُ عُلماءُ الفيزياء شرحَ جميعِ الجُسيمات وجميعِ القوى على أنّها ناجِمةٌ عن اهتزاز سلاسِلَ صَغيرةٍ جدّاً، أصغَرُ بِكثيرٍ مِن أيّ جُسيماتٍ مَعروفة. وتلعب الطّوبولوجيا دوراً رئيساً في هذا السّيناريو.
إذ يُمكِنُ للأوتارِ أن تتّخذَ أشكالاً مُختلِفةً، وليسَ مجرّد خيوطٍ بَسيطة. تُحدّدُ هذهِ الأشكالُ نوعَ الاهتزازات الّتي يخضعُ كلّ نوعٍ من الأوتار لها، فكما يهتزُّ كلّ وترٍ من أوتارِ العودِ بطريقةٍ مُختلفةٍ ويُصدرُ صوتاً مُختلفاً، فإنّ لكلّ نوعٍ من الأوتارِ الفائقةِ خصائصَ مختلفة، فمنها الإلكترونات ومنها الكواركات.
تتصوّر نظريّة الأوتارِ البُنيَةَ المِجهريّة الزّمكانيّة على أنّها تتألّف من ستّة أبعادٍ إضافيّة مُتشابِكة معاً في كلّ نقطةٍ وفي كُلِّ مكانٍ حولَنا. تُعدُّ طريقةُ تشابكِ هذه الأبعاد معاً مُشكِلةً طوبولوجيّة.
فعلى سبيل المثال، تعتبرُ نظريّة الأوتارِ أنّ عدد أنماطِ الاهتزازاتِ الّتي تقومُ بها الأوتار هو رهنُ عددِ الثّقوب الّتي يُمكن للأوتارِ أن تُشكّلها، وبالتّالي عددُ أنماط الجُسيمات الأساسيّة. وبما أنّ هناك ثلاثةُ أنماطٍ من هذه الجُسيمات (الكواركات)، فلا بدّ أنّ تحتوي بُنية الزّمكان لكوننا على ثلاثة ثقوب.
وبالعودة إلى وجبة الإفطار؛ فإنّ الدّونات تحوي ثُقبًا واحِداً، وهكذا أنت (يبدأُ في الفمِ وينتهي في الطّرف الآخر)، لهذا السّبب فأنت والدّونات متطابقان طوبولوجيّاً.
للمعرفة القصّة الكاملة لديفيد ثولِس ومايكل كوستِرلز ودانكن هالدين مع الطبولوجيا انقر الرابط هنا
المصادر:
هنا
هنا