القصة الحزينة والدموية لانفصال الكوريتين
التاريخ وعلم الآثار >>>> تحقيقات ووقائع تاريخية
نحكي لكم في مقالنا قصة انقسام كوريا إلى بلدين متصارعين والحرب الكورية والتي على رغم من مرور أكثر من ستين عام على سكوت بنادقها ما زالت من أكثر المناطق خطورة وتوتر في العالم.
الكوريتان:
لطالما حكم الكوريين نفسهم على مر التاريخ، لكن آخر سلالاتهم الملكية الحاكمة والتي استمرت لخمس قرون كانت على موعد مع النهاية. ففي عام ١٩١٠م وقعت الاتفاقية اليابانية الكورية والتي تنص على تنازل الامبراطور الكوري عن حقه في السيادة على الأراضي الكورية لصالح الامبراطور الياباني، فأمست كوريا وفقاً لذلك جزء لا يتجزأ من أراضي الامبراطورية اليابانية.
مع اشتعال رحى الحرب العالمية الثانية أعلن الاتحاد السوفيتي الحرب ضد اليابان التي كانت تقف إلى جانب المانيا النازية. هاجم الروس شبه الجزيرة الكورية عبر الأراضي الصينية في آب ١٩٤٥م تزامن ذلك مع استسلام اليابانيين. كان الامريكان قلقين من أن يسيطر الروس على كامل شبه الجزيرة الكورية قبل أن تصل جيوشهم لها، لذلك أُسند إلى شابين يعملان في وزارة الخارجية الامريكية مهمة تحديد الجزء الذي سيكون تحت السيطرة الامريكية.
يقول أحد هذين الشابين وهو دين روسك: "لقد رجعت من الاجتماع وجلست في غرفة مجاورة وكان الوقت متأخراً من الليل. كنت اراجع خريطة كوريا بتسرع وتحت ضغط عالي، وكان يقع على عاتقنا مهمة صعبة وهي اختيار الأراضي التي سيسطر عليها الامريكان. لم نكن خبراء بكوريا، لكن قررنا أن تكون (سول) العاصمة تحت سيطرة امريكا ولم يكن الجيش الامريكي يريد مساحة كبيرة من كوريا. لذلك نظرنا فوق سول مباشرة للبحث عن أي حاجز طبيعي يمكن أن يكون حداً فاصلاً لكننا لم نجد. ثم وجدنا خط عرض ٣٨ فاعتمدناه. وافق قادتنا على ذلك وكذلك الروس ببساطة".
احتل السوفييت المنطقة الواقعة إلى شمال هذا الخط، بينما احتل الأمريكيون المنطقة الواقعة إلى جنوبه. وبنهاية عقد الأربعينيات، كانت دولتان قد نشأتا في شبه الجزيرة الكورية، ففي الجنوب، كان الديكتاتور المعادي للشيوعية سينغمان ري يتمتع بدعم أمريكي، بينما في الشمال كان الديكتاتور كيم إيل سونغ يحظى بمساندة السوفيت القوية. ولكن لم يكن أي من الزعيمين راضياً بالبقاء في جانبه من خط العرض 38، إذ كانا يعتبران نفسيهما الممثل الشرعي لكامل كوريا، ولذا كثرت الاشتباكات الحدودية بين الطرفين وأصبحت أمراً دارجاً.
اندلاع الحرب:
في فجر الـ 25 من حزيران 1950م هاجمت قوات كوريا الشمالية على طول الحدود الفاصلة، لتسحق الأفواج الأربعة المتمركزة هناك. الفصيلين العسكرين المتمركزين جنوب هذه الأفواج انسحب مباشرة إلى الجنوب لحماية العاصمة. كان الهجوم هذا أكثر من شجار حدودي عابر، إنه غزو يهدف لإسقاط كوريا الجنوبية.
كان الجيش الكوري الشمالي جيشاً منضبطاً ومدرباً تدريباً جيداً ومزوداً بما يحتاج من معدات وسلاح. أما قوات سينغمان ري، فكانت على عكس ذلك خائفة ومضطربة وميالة للفرار من ساحات المعارك في أي مناسبة.
خلال يومين من الهجوم أخلت الحكومة نفسها من العاصمة سول، وقامت بتفجير جسر هانكانك لتأخير القوات الشمالية. فجرت القوات الجنوبية الجسر أثناء عبور الجنود والمدنين فوقه مما تسبب بموت 500 شخص بل أن جزء من القوات الجنوبية لم تكن قد عبرت الجسر فحصورت شمال النهر. خلال أسبوع واحد خسرت القوات الجنوبية 44 ألف رجل. كل هذا لم يمنع من سقوط سول بيد الشماليين في نفس اليوم.
خلال تقهقر القوات الجنوبية إلى الجنوب، يشتبه بأنها ارتكبت مجازر بحق من اعتقدت أنهم "متعاطفين مع الشيوعية" تشير مصادر إلى اعدام 100 ألف شخص ودفنهم في مقابر جماعية.
التدخل الامريكي:
فاجأ الغزو الكوري الشمالي للجنوب المسؤولين الأمريكيين الذين كانوا يعتقدون أن النزاع ليس مجرد نزاع حدودي بين نظامين ديكتاتوريين غير مستقرين في منطقة نائية من الكرة الأرضية، بل كان الكثير منهم يخشون من أنه يمثل الخطوة الأولى من حملة شيوعية تهدف إلى الهيمنة على العالم. ولذا، فالامتناع عن التدخل في الحرب لم يكن وارداً بالنسبة للكثيرين من صناع القرار الامريكيين آنذاك.
فور بدء الهجوم الشمالي، أصدر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قراراً اعتبر بموجبه التدخل الكوري الشمالي غزواً ودعا إلى وقف فوري لإطلاق النار. بينما قامت القوات الامريكية المتمركزة في اليابان بقصف القوات الشمالية لكن من دون جدوى.
وبعد يومين، أصدر مجلس الأمن قراره الـ 83 الذي قرر فيه إرسال قوات دولية إلى كوريا. هبت 21 من الدول الاعضاء في المنظمة الدولية (الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا وتركيا واستراليا واثيوبيا والفلبين ونيوزيلندا وتايلاند واليونان وفرنسا وكولومبيا وبلجيكا وجنوب افريقيا وهولندا ولوكسمبورغ) وساهمت في هذه القوات "الأممية"، التي شكلت القوات الأمريكية 88 بالمئة من قوامها. قال الرئيس الأمريكي (الديمقراطي) آنذاك هاري ترومان: "اذا خذلنا كوريا، سيواصل السوفيت تقدمهم وسيبتلعون البلد إثر الآخر."
كان الصراع في شبه الجزيرة الكورية بالنسبة للأمريكيين رمزاً للصراع بين الشرق والغرب، وبين "الخير والشر." ولذا، وبينما كان الجيش الكوري الشمالي يحتل العاصمة الجنوبية سول، أعدت الولايات المتحدة قواتها لحرب ضد الشيوعية بحد ذاتها.
Image: Wikimedia.com
الشكل (1): المنطقة الخضراء هي بوسان المنطقة الوحيدة التي ظلت تحت سيطرة القوات الجنوبية والأمريكية، السهم الأزرق يشير إلى مدينة انشيون حيث قامت القوات الأمريكية بإنزال بحري
استقدمت القوات الامريكية قواتها المتواجدة في اليابان القريبة على الرغم من قلتها وضعف تجهيزاتها. في الـ 5 من تموز/ يوليو انخرطت تلك القوات بأولى مواجهة مسلحة مع الشمالين فمنيت بهزيمة قوية اضطرتها للانسحاب، الواقع العكسري أن القوات الامريكية لم تكن قادرة على مواجهة الشماليين لكن استمر الجنرالات الامريكان في القتال بهدف تأخير القوات الشمالية لحين وصول تعزيزات امريكية قوية.
كما دارت تلك المعارك في صيف ارتفعت فيه درجات الحرارة إلى معدلات قياسية، بحيث اضطر الجنود الأمريكيون العطشى إلى شرب الماء من مزارع الرز التي استخدمت فيها الأسمدة العضوية، ولذا أصيب الكثير منهم بالتهابات معوية وغيرها من الأمراض.
بحلول شهر آب/ أغسطس كانت القوات الامريكية قد تراجعت إلى مدينة بوسان آخر نقطة في أقصى جنوب كوريا. أعدت القوات الامريكية خط دفاع لا تراجع عنه حول المدينة ونجحت بكسر الشفرة الكورية لتكشف تحركات الشماليين. ووسط تدفق التعزيزات العسكرية نجحت القوات الامريكية بالصمود وصد جميع الهجمات الكورية شمالية.
تجلت العبقرية العسكرية للقائد الامريكي ماك ارثر بإنزال برمائي في انشيون في كوريا الجنوبية، والتي نجحت بتمركز القوات الامريكية قرب سول في منتصف شبه الجزيرة الكورية وخلف خطوط الجيش الشمالي بعشرات الكيلومترات، لذلك اضطر الكوريين الشماليين للانسحاب من الجنوب نحو سول خشية قطع امدادتهم مع الشمال. طرد الكوريين الشماليين من سول وانسحبوا إلى شمالي خط العرض 38.
لكن الامريكان لم يكتفوا بذلك، وقرروا ملاحقة الكوريين الشماليين في أراضيهم لاسقاط حكومتهم. لكن بعد أن عمد الأمريكيون إلى اجتياز الحدود والتوجه الى نهر يالو (الذي يمثل خط الحدود بين كوريا الشمالية والصين)، بدأ الصينيون بالتعبير عن قلقهم إزاء ما وصفوه "بالعدوان المسلح على الأراضي الصينية." حيث خشيت الصين من اسقاط حكومة كوريا الشمالية الشيوعية.
دخول الصين للحرب:
الصين هي الجارة الوحيدة لكوريا الشمالية، العلاقة بين البلدين تفوق علاقة الجوار العادية حيث شارك الكوريين الشماليين في القتال إلى جانب الشيوعيين في الصين وساهموا بانتصار الشيوعية هناك وقيام جمهورية الصين الشعبية بقيادة "ماو" عام 1949م. ومع توغل الجيش الامريكي في كوريا الشمالية رأت الصين ضرورة التدخل بشكل مباشر لإنقاذ الجار الشيوعي. بالفعل عبر عشرات آلاف من الجنود الصينين نهر يالو الفاصل بين كوريا والصين وشنو الهجوم الأول على القوات الامريكية، رغم نجاح الهجوم الأول إلا أن الامريكان استخفوا بقوة الصينين.
Image: Wikimedia.com
الشكل (2): جنود صينيون يعبرون نهر يالو إلى كوريا الشمالية
قاد الامريكان تحرك جديد للسيطرة على ما تبقى من كوريا إلا أن الهجوم الصيني الثاني كان حاسماً وأوقع خسائر كبيرة بصفوف القوات الامريكية التي أجبرت على الانسحاب من كوريا الشمالية إلى خط عرض ٣٨.
تلى ذلك الهجوم الصيني الثالث الذي دحر القوات الامريكية إلى الجنوب أكثر لتسقط العاصمة سول بيد الصينين. بسبب ابتعاد القوات الصين عن الحدود الصينيه الكورية وتوغلها جنوباً لمسافة كبيرة صارت تعاني من مشاكل كبيرة بايصال الاحتياجات اللوجستية لجنودها.
تمكن الامريكان من صد الهجوم الصيني الرابع وتقدموا ليستعيدوا السيطرة على العاصمة سول التي تحولت إلى انقاض ليستمر القتال حول خط عرض ٣٨ مراكماً خسائر كبيرة في أرواح الجيشين بدون أن يحقق أحد تغير على الأرض.
"لا بديل للنصر":
لم يكن الرئيس ترومان ومستشاروه يريدون توسيع الحرب مع الصين، فقد كانوا متأكدين بأن توسيع الحرب ستؤدي لا محالة إلى تحرك سوفيتي في أوروبا واستخدام أسلحة نووية وملايين الخسائر. ولكن الجنرال ماك آرثر كان يرى أن أي حرب أضيق نطاقاً من حرب شاملة تعتبر "تنازلاً" للشيوعيين. فبينما كان الرئيس ترومان يعمل كل ما في وسعه لتجنب الحرب مع الصينيين، كان ماك آرثر يبذل كل ما لديه من جهود لإذكاء حرب كهذه.
ماك آرثر قائد عسكري كبير له تاريخ حافل بالانتصارات المذهلة، لم يكن ليتقبل نصف انتصار وكان يريد أن ينهي حياته العسكرية بسيطرته على كامل كوريا. طلب من الحكومة الامريكية الأذن بقصف الصين لكن طلبه رفض. وأراد أن ياخذ الصلاحية باستخدام السلاح النووي وأن لا يكن حصرياً بأمر الرئيس الامريكي.
عندما علم ماك آرثر أن الرئيس ينوي الإعلان عن هدنة لبدء مفاوضات مع الصين لحل القضية، تعمد الإدلاء بتصريح شديد اللهجة ضد الصينين، حيث قال أنه قادر على مسحهم من الوجود لولا أن "يديه مقيده" في إشارة واضحة للرئيس الامريكي. الأمر الذي دفع الصينين للإعلان عن إصرارهم على مواصلة القتال حتى النهاية، فنسف ذلك خطة ترومان للسلام.
وأخيراً، وفي آذار / مارس 1951م، بعث ماك آرثر برسالة لزعيم الجمهوريين في مجلس النواب جوزيف مارتن - الذي كان يؤيد موقف ماك آرثر بإعلان الحرب على الصين - قال فيها إنه "لا يوجد بديل للنصر" في الحرب على الشيوعية العالمية. كان ماك آرثر واثقاً بأن محتويات الرسالة ستسرب إلى الصحف، ولكن بالنسبة لترومان كانت تلك الرسالة هي "القشة التي قصمت ظهر البعير". وفي الـ 11 من نيسان / أبريل 1951م، طرد ترومان ماك آرثر بتهمة التمرد.
الحرب تصل إلى طريق مسدود:
في تموز / يوليو 1951م، شرع الرئيس ترومان وقادته العسكريون الجدد في مفاوضات للسلام جرت في قرية بانمونجوم الحدودية بين الكوريتين، ولكن القتال استمر في منطقة خط العرض 38 بعد أن تعثرت المفاوضات. وكانت عقدة الخلاف بين الجانبين تتمثل في وجوب إجبار الأسرى الكوريين الشماليين والصينيين على العودة إلى بلدانهم، إذ كان الصينيون والكوريون الشماليون يصرون على ذلك، بينما رفض ذلك الأمريكيون.
ولكن أخيراً، وبعد أكثر من سنتين من المفاوضات وقعت الأطراف المتحاربة على اتفاق للهدنة في الـ 27 من تموز / يوليو 1953م سمح للأسرى بالتوجه إلى البلد الذي يرغبون، ومنح كوريا الجنوبية مساحة أرض إضافية تبلغ مساحتها 1500 ميل مربع قرب خط العرض 38 وشكّل "منطقة منزوعة السلاح" يبلغ عرضها ميلان (ما زالت موجودة لليوم).
الخسائر:
كانت الحرب الكورية حرباً قصيرة، ولكنها اتسمت بدموية استثنائية، فقد قتل فيها أكثر من 5 ملايين إنسان أكثر من نصفهم من المدنيين شكلوا 10 بالمئة من مجموع سكان الكوريتين. وكانت نسبة الخسائر تلك أعلى من نسبة الخسائر المدنية في الحرب العالمية الثانية وحرب فيتنام. كما قتل في الحرب نحو 40 الفاً من العسكريين الأمريكيين وجرح فيها أكثر من 100 ألف.
Image: Haider Al Almy, syr-res.com
الشكل (3): الحرب الكورية في أربع صور
المصادر:
هنا
هنا
هنا
هنا
هنا
هنا
هنا