هناك في قلب الموصلِ القديمة، تقف تلك المنارة لتروي حكايةَ قرونٍ من الدهور والأزمان التي مرّت على المدينة، تلك المنارة الطاعنةُ في السن شهِدت آلاف القصصِ والحكايا، مئاتٌ من الأجيال والأحفاد، والكثيرُ من الفرح والحزن الذي شارك فيه أهل الموصل. يبدو أن الحدباء لم تحتمل أن ترى كل هذا الألم والموت يصيب أهل مدينتها فقررت أن تسقطَ أرضاً، حزينة مفجوعة بكل هذا الظلم والألم الذي حولها.
نروي لكم في هذا مقال قصة من القصص التي مرت بها الحدباء، قصة المسيحي الذي نهض ليساعِدها على الوقوف، ليس لشيء بل فقط لأنها قد طبعت مكاناً غالياً في قلوب جميع أهل الموصل على مر الأزمان.
قراءة ممتعة..

هناك في قلب الموصل القديمة، تقف تلك المنارة لتروي حكاية قرون من الدهور والأزمان التي مرت على المدينة. بنيت المنارة كجزءٍ من جامع بناه نور الدين زنكي عام 1172م ليكون المسجد الثاني الذي يبنى في الموصل.

ترتفعُ منارة الجامع مسافة 45 متر (أو ما يعادل بناءٍ بـ 15 طابقاً)، وهي عبارة عن قسمين أحدهما أسطواني (في الأعلى) والآخر موشوري (في الأسفل)، ويشملُ القسم الأسطواني على سبعة أقسام مزخرفة نافرة.


Image: Wikimedia.com

الشكل (1): يوضح التفاصيل الزخرفية في منارة الحدباء

زار الموصلَ الرحالة الشهير (ابن بطوطة) بعد قرابةِ المئتي عام من إنشائها، وكانت المنارة مائلةً بشكل واضح في ذلك الوقت، لتحصلَ على تسمية "الحدباء" التي سترافقها على مرِّ القرون القادمة.

أصاب المسجد ومنارته القديمة الإهمالُ الشديد في مراحل متعددة من الأزمان. وفي عام 1939م عزم أهل الموصل على ترميم فجوة في منارة الحدباء العزيزة عليهم والتي تهدد بانهيارها في حال لم ترمم.

تروي الذاكرة الشعبية أن حاكم الموصل في ذلك الوقت أوكل هذه المهمة الصعبة إلى أحد المعماريين الموصليّين وهو (عبد المولى جرجيس)، والذي عرفه أهل الموصل باسم "عبودي طنبورجي".

اختار طنبورجي فريق عملهِ بعناية محذّراً إيّاهم بأن العمل يحتاج إلى دقة وقوة وحسٍّ عاليٍ بالشجاعة، وذلك لارتفاع المكان وخشية أن تسقط المنارةُ عليهم.

بدأ المعماري عبودي طنبورجي بإعداد المستلزمات والمعدّات المطلوبة لعملية البناء، ومنها صندوق خشبيٌ كبير بطول ستةِ أقدام وعرضِ ثلاثة أقدام وارتفاع قدمين، و مسامير من الحديد ذواتِ رأسٍ كروي وربط الصندوق بثمانية حبال غليظة من زواياه الأربع وكان طول الحبل أكثر من 25 ذراعاً وجعل في كل ذراع عقدةٌ مع مذراةٍ وجرّارٍ وجصٍّ سريع الجفاف وحجارةٍ جصّيّةٍ قديمة. قاس عبودي طنبورجي وزن نفسه في ميزان ووضع حجر صوانٍ بنفس وزنه في الصندوق الخشبي، ثم صعد إلى حوض المنارة مع المستلزمات التي هيأها مع صفائح ملساء وضعها على الحوض، ليسهل انزلاقُ الحبال عليها دون أن تنخدشَ أو تتآكل، وساعده في هذه العملية أربعة بنّائين أمسكوا بحبلين مشدودين إلى زاويتين في الصندوق، وانزلوه ببطءٍ إلى وسط المنارة.

كانت أسطحُ المنازل مكتظّة بالمتفرجين إضافة لحضور العديد من المسؤولين الذين كانوا جميعاً قلقين وهم يشاهدون عبودي طنبورجي يتسلق المنارة بلا خوف ولا تردد، بدأ طنبورجي بالعمل لكنه توقف فجأة وقد بانت في وجهه علامات الخوف. وبحركة خاطفة مدّ يده داخل الفجوة ليخرج أفعىً كبيرة رماها إلى الأرض مباشرةً ليقتلها الناس.

واستمر في العمل لمدة ساعة حتى أصلح الخلل بكل نجاحٍ، وسط تصفيقِ وأهازيج الناس الفرحين من حوله.
ولما أراد حاكم الموصل تكريم هذا المعماري الشجاع، رفض (طنبورجي) قائلاً " أنا آخذ أجري من صاحب البيت" (يقصد بذلك الرب)، ليصبح هذا الحدث من الذاكرة الشعبية لأهل الموصل.

واليوم وبعد مرور 845 عاماً على بناء الجامع النوري و المنارة الحدباء، وفي الحادي والعشرين من حزيران/يونيو عام 2017م دمرت الحرب الجامع والمنارة وأخذت الحدباء و الذكرى الأجمل من ذاكرة الموصليّين.


Image: DigitalGlobe 2017

الشكل (2): صورة جوية بتاريخ 19/6/2017 يظهر فيها الجامع النوري ومنارة الحدباء بوضوح


Image: DigitalGlobe 2017

الشكل (3): صورة جوية بتاريخ 22/6/2017 يظهر فيها تدمير منارة الحدباء بشكل كامل وجزء من الجامع النوري

تنويه: الأحداث أعلاه عبارة عن قصة شعبية نقلت من ذاكرة شعب الموصل ولا يمكن التأكد من صحتها بشكل دقيق.

المصادر:
1-
هنا
2-
هنا
3- شمدين، نوزت. قادمون يا عتيق، مكتبة الجيل العربي، الموصل، 2014.