لماذا تختلف روايات المؤرخين؟ سيرة الملك هنري الخامس نموذجاً
التاريخ وعلم الآثار >>>> التاريخ
تأثر المؤرخون و بعض الأدباء بمن فيهم مايكل جونز بسحر شخصية شكسبير عن الملك البطل،فكانت رؤية رواية شكسبير لأحداث تلك المعركة بمثابة الشيء المُنزل الذي لا نقاش فيه.
كان للملك هنري مكانة أيقونية جعلت الكثير من المؤرخين مثل مورتمير يصفونه بـ "بطل زمانه"، في حين وصفه ك.ب مكفارلني بأنه "أعظم رجل حكم انكلترا".
في ظل إعجاب المؤرخين و مدحهم لبطل أجنكورت، ظهر من يسارع للإشارة لعيوبه الكثيرة. فكان وصف نجاحاته بالمبالغ في تقديرها، و ذلك بتعبيرهم عن الأعباء الضخمة التي خلفتها حربه و تأثيرها على مملكة انكلترا لوقت طويل بعد وفاته المبكرة.
انتقد آخرون النهج الذي اتبعه في معاهدة " Troyes" مشيرين إلى دورها في جر انكلترا إلى الحرب الأهلية الأرماغنية البرغندية كمعارضين لاستغلال سلطة منصب الملك.
كما ظل المؤرخون منتقدين لموقف هنري المثير للجدل لإعدامه الميداني لأسرى فرنسيين في معركة أجينكورت، مدعين ان أفعال كهذه رجّحت نجاحاته.
و هنا لابد من السؤال عن سبب اختلاف المؤرخين في الحكم على الملك هنري بأنه ملك ناجح أم لا!
طالما أن إطار العمل مبني على المنظور العسكري ومسيرة إنجازاته فهناك مجال للخطأ في عيون الكثير من المؤرخين. فالمؤرخ الذي يركز على المنظور العسكري لحرب المائة عام سيخلص لنتائج مغايرة تماماً عن مؤرخ يبحث في النتائج الاقتصادية لهذه الحرب.
يرى المؤرخ ويليام اورمرود في تقريره الموجز عن فترة حكم هنري الخامس والتي ركزت بشكل أساسي على الأحداث في فرنسا أنه "أكثر الملوك المحاربين إبهاراً في نجاحاته"، هذه النظرة مدعومة أيضاً من دان جونز بإدعائه أن نجاحات هنري الخامس: "ذروة ما حظيت به انكلترا في حرب المائة عام".
المؤرخون الذين يركزون على إطار العمل العسكري غالباً ما يستشهدون بالتوسعات الإقليمية لعرش انكلترا تحت قيادة هنري الخامس لكونها حجة مقنعة لنجاحاته ،إضافة لكسبه النورماندي كما تعتبر معاهدة "Troyes" من أكثر إنجازاته إبهاراً.
يؤكد مؤرخون مثل جرافت والذي يركز أيضاً على الجانب العسكري أن بالرغم من دور معركة اجينكورت إلا أن الحصارات في السنوات اللاحقة كانت هي التي أرهقت أعدائه.
من الناحية الاقتصادية هناك رأي مخالف لما سبق ذكره، فكتب ديزموند سيوارد عن العجز الذي واجهته الحكومة بفترة وفاة هنري الخامس والذي وصل إلى 30.000£ منها 25.000£ ديون ، وأرجع سيوارد ذلك لكلفة الحرب العالية مشيراً إلى الدخل الحكومي من المقاطعات المستولى عليها لم يكن باستطاعته دفع هذه النفقات نظراً للاضطرابات المستمرة، وسيوارد لم يكن وحده من ادّعى أن حالة الاقتصاد عند وفاة هنري الخامس منعته أن يكون ملكا ناجحا.
تحدثت أيضاً جولييت باركر بكتاباتها عن كيفية استنزاف الغزو النورماندي موارد انكلترا المالية والبشرية كما تحدثت عن كلفة حامية هنري ومعاقله.
بهذه الطريقة نرى أن استخدام أطر عمل مختلفة يسبب الخلاف بين المؤرخين، لأن ما يحتويه إطار عمل من وقائع قد لا يحتويه آخر. لذلك أن اختيار إطار العمل سيغير أيضاً طريقة المؤرخ بإظهار موضوعه، فالمؤرخ الذي يريد معاينة المزاعم المتعلقة بجرائم الحرب التي ارتكبها هنري الخامس من المرجح أنه سيخرج بصورة سلبية عن مؤرخ يكتب عن علاقة هنري الخامس بالأوامر الشجاعة.
ليس انتقاء المؤرخون موضوع ما للبحث هو فقط ما يمكن أن يثير الخلاف بينهم وإنما الحقبة الزمنية لهذا الموضوع والحقبة التي يريدون البحث بها؛ فكتاب "عام مجد هنري "Henry's year of glory"
لـ إيان مورتمير Ian Mortimer يبحث تقريباً فقط في عام 1415 ، العام الذي شهد حملة أجنكورت والمسلم جدلاً بأنها أكثر سنوات حكمه نجاحاً، وبناءً على هذا فهو ليس قادرا على معاينة حملة هنري الثانية في فرنسا والتي كانت أطول وليس بقادر على معاينة أحداث أخرى على مر فترة حكم هنري الخامس فبالتالي لم يستطع إعطاء تفاصيل كافية لإقرار هنري الخامس كملك ناجح أو لا .
في سياق الحكم على هنري الخامس إن كان ملكا ناجحا أم لا، يجب معاينة كامل فترة حكمه، وليس فقط سنة واحدة، وقد يجادل البعض أنه من الضرورة البحث في استمرار حرب المائة عام بعد وفاته.
كان هدف هنري النهائي هو توحيد عرشي انكلترا وفرنسا تحت حكم عائلة لانكاستراين Lancastrian وبما أن ابنه خسر كل الأقاليم الفرنسية ما عدا Calais فإن أي مؤرخ يستطيع بسهولة أن يجادل بفشل ذلك الهدف.
كتاب مورتمير لا يعطي الفرصة لمناقشة قضايا كهذه، ولذلك احتمال الخلاف قائم بينه وبين كتب قد تؤرخ حقبة الحرب كاملة تحت قيادة هنري السادس ككتاب جولييت باركر "Conquest" ..
كما أن الحجج التي قدمها مورتمير محددة بالمصادر التي استخدمها في كتابه، وطبعاً هذا ينطبق على كل المؤرخين وليس عليه فقط.
الحجج التي يخلص إليها المؤرخون مبنية على الأدلة التي تقدمها المصادر ولذلك تختلف باختلافها أو بميل المؤرخ لمصدر ما يعتبره مهماً أكثر من غيره. هناك العديد من المصادر التي تفصّل فترة حكم هنري الخامس ولكن في هذه المقالة سنبحث كيفية استخدام المؤرخين للمصادر عن معركة أجينكورت لتحديد نجاح هنري الخامس كملك. العديد من المؤرخين يعتقدون أن أجينكورت هي جذر نجاحات هنري الخامس اللاحقة.
كتبت آن كوري Curry كيف استطاع هنري دمغ سمعته بالملك المحارب وكيف أن الفرنسيين لم يجرؤوا بعد معركة أجينكورت أن يواجهونه في معركة مجدداً.
في كتابها "اجينكورت : تاريخ جديد"Agincourt : A New History"
تقدم آن كوري Anne Curry في بحثها رؤى عن الأعداد في معركة اجينكورت، وفي سياق بحثها جمعت الأستاذة كوري قاعدة بيانات تضم قائمة بأسماء كل الجنود الذين قاتلوا بحرب المائة عام، ومن خلال هذا البحث استطاعت تقديم طرح عن أرقام 9.000 جندي انجليزي و 12.000 جندي فرنسي .
كان يحتفى بأجينكورت على أنها أعظم الانتصارات بحرب المائة عام بسب ما وصفه العديد من المؤرخين بالنصر الشبيه بالمعجزة للجيش الإنجليزي الصغير.
بشكل عام أصبح مقبولاً أن الواقع يقول أن الأعداد متقاربة أكثر من الأفكار السائدة عنها، وحالة هنري الخامس كملك محارب ناجح أصبحت أقل.
بكافة الأحوال هناك مؤرخون لا يوافقون على هذا البحث الجديد من قبل آن كوري، فكانت جولييت باركر من أبرز ناقدي هذا البحث ، وتحيلنا باركر للمصادر المنتجة إبان حياة هنري الخامس والتي تستشهد بأرقام ك 60.000 أو حتى 150.000 ولكنه يستقر على 36.000 كما هو مسجل من قبل البرغنديين في الجيش الفرنسي.
بالإضافة لهذا تتدعي باركر Juliet Barker في كتابها أن السجلات عند كلا من الطرفين ناقصة لتؤكد لها إن تسعة ألاف جنديا انجليزيا حُرضوا فقط على اثني عشر ألف جنديا فرنسيا. إذا كان الفرق فعلاً بهذه الضآلة فهذا يجعل من كل كتابات معاصري المعركة بلا معنى.
مؤرخون آخرون انبروا للدفاع عن ادعاءات كوري المثيرة للجدل؛ من بين هؤلاء ايان مورتمير الذي اختار الوقوف في صف الأستاذة كوري ضد جولييت باركر تبعاً لتفسيره للمصادر التي اعتمدت عليها باركر، ويحث مورتيمر القارئ أن يضع بالحسبان أن الوصف الوحيد لحجم جيش ما كان متوفراً فقط في العهد القديم - الذي يذكر عددها بالعشرات أو المئات أو الآلاف من الرجال؛ ومن هذا نستنتج أن مورتمير يعتقد أن مؤرخي تلك الحقبة كانوا يكتبون محاولين أن يحاكوا الأحداث بأبعاد توراتية بحتة، لذلك ليس بالضرورة أن يكونوا موضوعيين أو دقيقيين وبذلك لا يمكن أن يعتبر كتاباتهم بالمصدر المفيد.
لا يمكن إنكار أن كلا الطرفين لديهم حجج منطقية وادعاءات صالحة، يبدو من الواضح أن اختيار المصدر ليس هو فقط ما يثير الخلاف بل بطريقة تفسيره حسب ترجمته.
يعتقد مورتمير بأن مؤرخي العصر الوسيط كتبوا بأسلوب مشابه لأسلوب المعارك في العهد القديم. كشف رؤى مفادها أن المعتقدات حول طريقة التفكير في العصر الوسيط تحدد كيفية النظر للمصادر التي تركها كتبة ذاك العصر، في حين أن تفسير باركر لبعض هذه المصادر لمؤرخي ذاك العصر قادتها لنبذ أخريين وقائمة الجنود التي أنتجتها الأستاذة كوري.
بالنهاية لابد لنا عندما نحدد أسباب خلاف المؤرخين أن نأخذ بالحسبان خلفية المؤرخ، فعندما يتم تغطية صراع عالمي مثل حرب المائة عام يكون من الصعب على المؤرخ أن يظلَّ موضوعياً تماماً وخاصة عند كتابة تاريخ بلده، وهذا ما تم الإشارة إليه من قبل آن كوري مفسرة أن المؤرخينن يُظهرون تحيزاً قومياً بشكل واضح' سواء كانوا يكتبون إبان الأحداث أو بعدها بستِّمائة عام.
وبهذا المنظور تنضم لجولييت باركر التي تدعم الرأي القائل:"ليس بالمصادفة أن الكثير من الكتّاب تم دفعهم للكتابة عن هنري الخامس ومعركة أجينكورت أثناء الحرب عندما كانت الروح المعنوية منخفضة".
الأمثلة عن الانحياز القومي ممكن أن نراها في أعمال العديد من الكتّاب، فالإنكليز غالباً يمدحون هنري الخامس بشدة، أما الفرنسيون فيسارعون للإشارة لخصاله السلبية.
يعتقد ويليام تشرشلWiliam Churchil بكتابه "تاريخ الشعوب الناطقة بالإنكليزيةHistory of English Speaking Peoples
أن فترة حكم هنري الخامس بمثابة "ومضة من العظمة" مقارنة بالحكاية المضطربة والمظلمة لإنكلترا في القرون الوسطى، ويتابع أيضاً بالدفاع عن قرار هنري بإعدام الأسرى الفرنسيين الذين أسروهم رجاله بمنتصف الطريق لمعركة أجينكورت مدعياً أن "الطابع اليائس لهذا الفعل يؤمن ما يمكن أن يكون دفاعاً عن وحشيته".
ولكن حين يتحدث تشرشل عن هنري الخامس أنه عظيم، رحيم، حصيف الأحكام، جندي لامع، ورجل انكليزي بحق مع كل العظمة لعائلة Plantagent صافياً من أخطاء أسلافهم الفادحة، كان المؤرخون الفرنسيون يقدمون صورة مختلفة تماماً عن إن كان هنري الخامس ملكا ناجحا أم لا.
(عائلة Plantagenet هي التي حكمت انكلترا من 1154 لـ (1485
نستطيع أن نجد النظرة المعاكسة في عمل المؤرخ الفرنسي ديزموند سيوارد Desmond Seward الذي درس في انكلترا، والذي يكنَ مشاعر الاحتقار للملك هنري فيقول: في الأسطورة القومية هنري هو الفاتح المجيد الذي كسر الأنفة الفرنسية في أجينكورت، في الواقع هو أبدى عدداً من الصفات الغير بطولية بشكل ملحوظ، ولديه الكثير من القواسم المشتركة مع نابليون وحتى هتلر.
ينضم سيوارد باغتياله لشخصية هنري الخامس لمؤرخين فرنسيين أخريين. مثلاً Perroy يعتبر هنري بأنه: "ينتمي لعصر الطغاة الإيطاليين" فهذه نظرة على نقيض مباشر مع من يؤيدون نظرة تشرشل بأن هنري كان "رحيماً".
العديد من المؤرخين الإنجليز المتأثرين بانحيازهم القومي لديهم النزعة للغلو بنجاحات هنري، كما العديد من المؤرخين الفرنسيين أيضاً تحت ذات التأثير فكانوا ميالين للإقلال من شأنها.
في فترة تعافي فرنسا في القرن الخامس عشر كتب أحد الكتّاب أن عدد الجنود الفرنسيين في معركة اجينكورت يجب أن يعتبر 6.000 جندي كأقصى تخمين ؛ على الرغم من كونه رقم مقبول نوعاً ما للقوات المنقوصة إنما للقوات الإنجليزية وليس الفرنسية.
يتحفظ سيوارد أيضاً على أهمية حملة اجينكورت واسماً إياها بالجولة التي لم تقرر شيئاً.
ومن خلال أمثلة كهذه نستطيع أن نرى أن خلاف المؤرخين على نجاح هنري الخامس يأتي في سياق دعم صورة تاريخ أوطانهم.
نأمل أن يكون هذا قد أظهر مدى الموضوعية في الحكم على شخصية تاريخية كونها ناجحة أم لا، لأن هذا لا ينطبق فقط على هنري الخامس فحسب، فهناك شخصيات متباينة مثل جينكيز خان والأم تيريزا فهما موضوعان لمناقشات مماثلة.
يحدُّ اختيار المصادر وأُطر العمل حتماً من المعلومات، بالتالي يحدّ من خط حجج المؤرخ. كما يؤثر بطريقة ترجمة المصدر، فالتفسير ممكن أن يتغير بناءً على كيفية النظر باستخدام كلمة معينة، أو كيفية تعامل المؤرخ في الحكم على نجاح هنري الخامس إن كانت بمقاييس العصر الوسيط أو بالمقاييس المعاصرة في ضوء معلومات المصدر (كما مبيّن بنبذ سيوارد المؤرخون الإنجليز الذين صرفوا النظر عن إعدام الأسرى الفرنسيين في أجينكورت لأنه فعل مفهوم بمقاييس اليوم). و هنا في كلا الحالتين يكون تأثر بمقاربة المؤرخ لموضوعه.
من الشائع الآن الرأي القائل بوجوب معاينة المؤرخ وحجته، حقيقة يمكن رؤيتها بنقاشنا هذا من خلال الانحياز القومي للعديد من المؤرخين الذين كتبوا عن هنري الخامس.
ختاماً يبدو من غير المرجح أن سمعة هنري الخامس ستتغير. وكما ذكرنا بدايةً تم إضفاء لمحة من الرومانسية على نجاحاته عبر الأجيال بفضل أعمال ويليام شكسبير وبفضل أعمال مؤرخين معاصرين كـ جولييت باركر التي عملت على تدعيم الصورة الناجحة للملك هنري الخامس، وهذا ما سيشكل تحدياً لمؤرخي المستقبل ليغيروا هذه الصورة الشعبية.
المصدر:
هنا