مجزرة ساحة تيانانمين، ما الّذي حدث هناك بالضّبط؟
التاريخ وعلم الآثار >>>> تحقيقات ووقائع تاريخية
الخلفيّة: بحلول ثمانينيّاتِ القرن الماضي أدرك قادة الحزب الشّيوعيّ الصّينيّ فشل سياسة الزّعيم الرّاحل ماو. سياسة ماو الّتي سمّيت القفزة العظيمة إلى الأمام (عام 1958م) والمتمثّلةُ بالحملة الصّناعيّة وإنشاءِ المزارعِ التّعاونيّة تسبّبت بأزمةٍ كبرى، بل ويعدُّها البعض مسؤولةً عن موت عشرات الملايين من الصّينيّين جوعاً. انحدرت البلاد بعدها إلى الإرهاب والفوضى السّياسيّة المتمثّلةِ بما يعرف بالثّورة الثّقافيّة (1966-1976م) الّتي أنتجت قوّات الحرس الأحمر الّتي تسبّبت هي الأخرى بموت مئات آلافٍ أو حتّى الملايينِ من الصّينيّين. وكذلك دُمّرت آثارٌ تاريخيّةٌ لا تقدّر بثمنٍ، ومُحيَ الفنّ الفلكلوريّ، وطُمست عقيدةُ الشّعب الصّينيّ الدّينيّةُ. أدرك القادة الصّينيّون ضرورة التّغيير لكي يبقوا في السّلطة، لكن ما التّغييرات الّتي وجب قيامُهم بها؟ انقسم قادة الحزب الشّيوعيّ، فمنهم من دعا إلى إصلاحاتٍ جذريّةٍ، بما في ذلك التّوجّه نحو الرّأسماليّة والمطالبة بمنح الصّينيّين حرّيّاتٍ فرديّةٍ أكبرَ، ومنهم أولئك المحافظون الّذين أيّدوا الاقتصاد الاشتراكيّ المقيّد و إبقاءَ قبضة السّيطرة حول رقاب السّكّان. أداءُ الحكومة وما تسبّبت به خلال عقدين جعل الشّباب الصّينيّ متعطّشاً للتّغيير، لكن في الوقت نفسه خائفاً من يد السّلطة الحديديّة والّتي كانت دوماً حاضرةً للبطش بأيّ معارضٍ. الشّرارة، وفاة هوياوبانغ: كان هوياوبانغ إصلاحيّاً تقلّد منصب الأمين العامّ للحزب الشّيوعيّ الصّينيّ من عام 1980م إلى عام 1987م. تبنّى إعادة تأهيل الأشخاص الّذين تعرّضوا للاضطهاد خلال الثّورة الثّقافيّة، وأيّد الحكم الذّاتي للتّبت والتّقارب مع اليابان، ونفّذ إصلاحاتٍ اقتصاديّةٍ واجتماعيّةٍ. لكنه أُجبر عامَ 1987م على التّنحّي من قِبَل منافسيه السّياسيّين الّذين اتّهموه بالتّشجيع على الاحتجاجات الطّلّابيّة عام 1986م أو بعدم الحزم في مواجهتها على الأقلّ. كما أُجبر على تقديم تصريحٍ علنيٍّ مُذلٍّ عن أفكاره البرجوازيّة الرّأسماليّة. توفي هوياوبانغ بسبب سكتةٍ قلبيّةٍ عام 1989م. ذكر الإعلام الصّينيّ الرّسميّ موته بإيجازٍ شديدٍ ولم تخطّط الحكومة لإجراء جنازةٍ رسميّةٍ له بادئ الأمر، لكن كان للطّلّاب الجامعيّين موقفٌ آخرُ، إذ تجمّع الطّلّاب في ساحة تيانانمين مطالبين الحكومةَ باحترام هوياوبانغ، وحفظِ ذكراه، وإصلاحِ سمعته. ذلك بأنّ هوياوبانغ بنظر محبّيه رمزٌ للّيبراليّة والحكومة النّظيفة. رضخت الحكومة للضّغط وأقامت لهوياوبانغ عزاءً رسميّاً. لكنّها رفضت استقبال وفدٍ من الطّلّاب المُعزّين الذين انتظروا بصبرٍ مدّةَ ثلاثةِ أيام في قاعة الشّعب الكبيرة، وكان هذا خطأَ الحكومة الأوّل. في الثّامنَ عشرَ من نيسانَ (أبريل) وضع الطّلّاب لائحةً مكوّنةً من سبعة مطالبَ، وهي كالتّالي: في الثّاني والعشرين من نيسان وخلال تأبين هوياوبانغ تظاهر قرابةُ مئةِ ألفِ طالبٍ. كان المتشدّدون من الطّبقة الحاكمة الصّينيّة يأخذون الاحتجاجات على قدرٍ كبيرٍ من الجدّيّة، على عكس الأمين العام للحزب الشّيوعيّ زاو زيانغ الّذي كان يعتقد أنّ الاحتجاجات ستنتهي بانتهاء مراسم العزاء، لقد كان واثقاً لدرجة ذهابه إلى كوريا الشّماليّة في زيارةٍ دامت أسبوعاً لعقد اجتماعات. في المقابل تصاعد غضب الطّلّاب بسبب عدم استقبال الحكومة إيّاهم، وتعاظمت جرأتهم بسبب تساهل الحكومة مع احتجاجهم وخضوعها لمطالبتهم بإعداد جنازةٍ رسميّةٍ لهوياوبانغ، إضافةً لعدم اتّخاذ أيِّ إجراءٍ حازمٍ لسحق المظاهرات. تسارعت وتيرة الاحتجاجات وأصبح صوت الطّلّاب أعلى وأعلى. بداية خروج الأمور عن السيطرة: للصّين وضعٌ سياسيٌّ مختلفٌ عن دول العالم الأخرى، إذ لا يُشترط أن يكون الرّئيس أو رئيس الوزراء الحاكمَين الفعليَّين للبلاد. ففي ذلك الوقت، كان دينج شياوبينج الحاكم الفعليّ للبلاد على الرّغم من عدم تقلّده أيّ منصبٍ حكوميٍّ. ويُعدّ دينج شياوبينج إصلاحيّاً كبيراً وداعماً لإصلاح السّوق وانفتاحيّاً عظيماً. بوجود زاو زيانغ خارج البلاد، عمد السّياسيّون المتشدّدون مثلُ رئيس الوزراء لي بينج إلى الإلحاحِ، وتسميمِ أفكار دينج شياوبينج، وتصويرِ المحتجّين على أنّهم يطالبون بإسقاط الحكومة الشّيوعيّة. فأدلى دينج شياوبينج تصريحاتٍ في السّادس والعشرين من نيسان يُدين بها الاحتجاجات ويصفها بأعمال الشّغب الّتي تقوم بها أقليّةٌ صغيرةٌ. أشعلت هذه التّصريحات المزيد من نيران الغضب عند المحتجّين، وكان هذا الخطأَ الكارثيَّ الثّاني الّذي ترتكبه الحكومة. كان من الطّبيعيّ أن يشعر الطّلّاب بالخوف، إذ لم يكونوا في ذلك الوقت قادرين على إيقاف الاحتجاجات بعد أن وُصِفوا بالمشاغبين، لأنّ الحكومة ستلاحقهم على الفور. لذلك تجمّع خمسون ألفِ طالبٍ لمواصلة الاحتجاج ومطالبةِ الحكومة بالتّراجع عن تلك الأوصاف كي يصبحوا بأمانٍ وقادرين على الخروج من السّاحة. لكن في الوقت نفسه كانت الحكومة قد تورّطت بإدلاء التّصريحات، كبرياء دينج شياوبينج وخوف الحكومة على سمعتها جعلهم غيرَ قادرين على التّراجع عن مواقفهم. زاو زيانج في مواجهة لي بينج: عاد زاو زيانج إلى البلاد ليرى أنّ الوضع قد اشتعل، لذلك طلب من شياوبينج سحب تصريحاته النّاريّة لنزع فتيل الأزمة. في المقابل كان لي بنج يرى أنّ التّراجع عن الموقف الحكوميّ خطأٌ جسيمٌ لأنّه سيظهر ضعف القيادة الشّيوعيّة. في هذه الأثناء كان الطّلّاب من جميع المدن الصّينيّة يتجمّعون في بكّين لمؤازرة المحتجّين. وتضخّمت حركة الاحتجاج بانضمام ربّات البيوت والعمّال والأطبّاء وحتّى البحّارة، وتوسّعت لتشمل العديد من المدن. في الثّالثَ عشر من أيّار (مايو) أعلن المحتجّون إضرابهم عن الطّعام بهدف إجبار الحكومة على التّراجع عن موقفها الّذي أعلنته في السّادس والعشرين من نيسان. شارك الآلاف بهذا الإضراب ما جعل الكثير من الصّينيّين يتعاطفون مع الاحتجاج. لم يفلح السّياسيّون الصّينيّون بإيجاد حلولٍ، لذلك أحالوا الأمر إلى شياوبينج. أعلن شياوبينج عن وضع العاصمة تحت الحكم العسكريّ. أُقيل زاو ووُضع تحت الإقامة الجبريّة، وعوقب لي بينج أيضاً. في صباح التّاسعَ عشرَ من أيّار ظهر زاو المخلوع في ساحة تيانانمين وتحدث للطّلّاب المضربين عن الطّعام حاثّاً إيّاهم على التّراجع، وكان هذا آخر ظهورٍ علنيٍّ له. أثّر خطاب زاو على المحتجّين فتراجع بعضهم بالفعل وخرجوا من السّاحة. في الثّلاثين من أيّار أنشأ المحتجّون نُصْبَ آلهة الدّيموقراطيّة في ساحة تيانانمين ليكون أحد رموز هذه الاحتجاجات. الشّكل (1): المحتجون مع نصب آلهة الدّيموقراطيّة في الثّاني من حزيران (يونيو) اجتمع كبار أعضاء الحزب الشّيوعيّ ليقرّروا الاستعانة بجيش التّحرير الشّعبي لإنهاء الاحتجاجات بالقوّة. مجزرة تيانانمين: في صباح الثّالث من حزيران عامَ 1989م تحرّكت قطعاتٌ من جيش التّحرير الشّعبيّ نحو المكان مصحوبين بالدّبّابات، أطلقوا الغاز المسيل للدّموع لتفريق المتظاهرين. استُقدِمت هذه القطعات بالتّحديد لأنّ جنودها ينحدرون من مقاطعاتٍ بعيدة، لأنّ الحكومة عدَّت قطعات الجنود المحلّيّين متعاطفةً مع المتظاهرين، وقد أُمروا بعدم إطلاق النّار. تجمّع المحتجّون لصدّ الهجوم من خلال إحراق الباصات وجعلها كالمتاريس لمنع تقدّم الجنود، ورموا الأحجار، وحتّى أحرقوا بعض الدّبّابات ومن فيها من جنودٍ، بالتّالي فإنّ الضّحايا الأوائل للهجوم كانوا من الجنود. مع حلول اللّيل عاد الجنود للسّاحة مجهزّين بما يحتاجونه من بنادق، ومدجّجين بالعديد من الدّبّابات. أطلق الجنود النّار وداست دبّاباتهم الحشود مخترقةً إيّاهم، صرخ المتظاهرون: "لماذا تقتلوننا". اندفع النّاس لإنقاذ الجرحى وقُتِل في هذه الفوضى عددٌ من الأشخاص الّذين لا علاقةَ لهم بالمظاهرات. ومع شروق شمس الرّابع من حزيران كانت ساحة تيانانمين خاليةً من المتظاهرين. كانت الصّدمة واضحةً في المدينة، ولم يخترق صمتَ المكان سوى صوت إطلاق النّار. اندفع أهل المحتجّين نحو السّاحة للبحث عن أبنائهم، قُتل العديد من الأهالي برصاصٍ في الظَّهر عندما كانوا يحاولون الفرار من الجنود. حتّى الأطبّاء مع سيّارات الإسعاف قُتِلوا بدمٍ باردٍ أثناء محاولة إنقاذ الجرحى. لا أحدَ يعرف كم عدد الّذين قضَوا في هذه المجزرة، فقد أعلنت الحكومة الصّينيّة عن 241 قتيلاً، ولكن على الأرجح هذا العدد غيرُ صحيحٍ وأقلُّ من الحقيقيّ بكثيرٍ. يُعتقد أنّ عدد القتلى في هذه الحادثة تراوح بين 800 و4000 قتيلٍ، وأعلن الصّليب الأحمر الصّينيّ عن حصيلةٍ أوليّةٍ قدَّرت عدد القتلى بـ2600 شخصٍ اعتماداً على المستشفيات المحلّيّة، لكنّها سحبت إعلانها بسرعةٍ نتيجةَ ضغط الحكومة. يقول عددٌ من الشّهود أنّ الجنود أخذوا العديد من الجثث، وبذلك لم تُحسب في المستشفيات حتّى. ما بعد المجزرة: تغيّرت حياة أولئك المتظاهرين النّاجين من الحادث، فحُكم على قادة الطّلّاب بأحكام سجنٍ مخفّفةٍ (أقلِّ من عشرِ سنواتٍ)، ووُضع الكثير من الأساتذة في القائمة السّوداء وحُرِموا من العمل، وأُعدِم عددٌ كبيرٌ من العمّال والرّيفيّين، والصّحفيّون الّذين تعاطفوا مع الاحتجاجات وجدوا أنفسهم مُقالين من أعمالهم، وسُجِن بعضهم لعدّة سنواتٍ. بالنّسبة للحكومة الصّينيّة فإنّ هذا الحادث كان نقطة تحوّلٍ، إذ سيطر الإصلاحيّون على القرار في الحزب الشّيوعيّ الحاكم، أمّا الحاكم السّابق زاو زيانغ لم يعد للسّلطة مجدّداً وقضى الأعوامَ الخمسةَ عشَرَ المّتبقّية من حياته في الإقامة الجبريّة. تسلّم عمدةُ شنغهاي جيانغ زيمين الأمانةَ العامّة للحزب الشّيوعيّ خَلَفاً لزاو، وكان له دورٌ سريعٌ في قمع المتظاهرين وإسكاتهم في مدينته. منذ ذلك الحين تُسكَت أيُّ إثارةٍ سياسيّةٍ في الصّين، وتحوّل تركيز الحكومة وعددٌ كبيرٌ من الشّعب إلى الإصلاحات الاقتصاديّة لا السّياسيّة. يُعدّ تداوُل موضوع تيانانمين من المحرّمات في الصّين، وتُغلَق المواقع الإلكترونيّة الّتي تتكلّم عن الحادثة، وبذلك فلم يسمع الشّباب تحت الخامسةِ والعشرين يهذه المجزرة. المصادر: 1- هنا 2- هنا 3- هنا