مقاومة المضادات الحيوية بين افتراضاتنا التقليدية وفهمنا الصحيح
البيولوجيا والتطوّر >>>> الأحياء الدقيقة
وقد عكفَ على هذا الأمر فريقٌ من الباحثين في جامعة هارفرد، وما توصَّلوا إليه هو أنَّ استجابة البكتيريا للمضاداتِ الحيويةِ داخلَ المختبر تختلفُ عمَّا هي عليه داخل الجسم، الأمرُ الذي يُرجِّحُ وبشدّةٍ أنَّ افتراضاتِنا الحاليةَ عن ماهيةِ المضادات الحيوية وكيفيةِ عملِها داخل الجسمِ الحيّ - والتي بُنيَت أساساً على التجاربِ المخبرية – قد تكون مُخطئِة!
وبحسب أحد القائمين على الدراسة؛ فإنَّ الافتراضَ الشائعَ هو أنَّ المضاداتِ الحيويةِ تعملُ على قتل البكتيريا النَشطةِ التي تنقسم وتتكاثر، وأمَّا تلك التي لا تنقسمُ فإنَّها تقاومُ وتعملُ على استمرار العدوى. وما نسألُه هنا: هل تتغيرُ نسبةُ البكتيريا المنقسمة تغيّرُاً ملحوظاً على مدار فترةِ العدوى؟ وهل تؤثر المضاداتُ الحيويةُ علي هذه النسبة؟ للحصول على إجاباتٍ استخدمَ الباحثون علم البيولوجيا التَّخْليقِيَّة Synthetic biology - الذي يُستخدم على نطاقٍ واسعٍ في هندسة البكتيريا - لإنشاءِ وسيلةٍ ميكروبيولوجية تستطيعُ أن تخبرَنا كيف تتصرَّفُ البكتيريا في أجسامنا.
فما فعلَه الباحثون بالتحديد هو استخدامُ سلالةٍ مُعدَّلةٍ وراثياً من بكتيريا العُصيَّاتِ القولونية E. coli تمتلك "مفتاحاً" وراثياً يتبدَّلُ من وضعِ الإيقاف إلى وضعِ التشغيل عند تعرُّضِ البكتيريا لمادةٍ كيميائيةٍ تُعرَفُ بالأنهيدروتيتراسيكلين Anhydrotetracycline (ATC). والمميزُ في هذا المفتاحِ أنَّ وضعَهُ يتبدَّلُ حصراً في حالِ كانت البكتيريا تنقسمُ عندَ إضافة الـATC، فعندما يصبحُ على وضع التشغيل يؤدّي إلى تغيُّراتٍ وراثيةِ في البكتيريا تسمحُ لها بهضمِ سكر اللاكتوز؛ أي إنّنا - وباستخدام وسطٍ مليءٍ باللاكتوز - يمكننا الاستدلالُ إذا ما كان هذا المفتاح على وضع التشغيل أم لا، وبذلك نعرفُ إذا ما كانتِ البكتيريا نَشِطةً أم نائمةً لحظةَ تعرُّضها للـ ATC.
وكما ذكرنا آنفاً؛ فإنَّ العدوى البكتيرية التي تحدثُ في أجسام الكائنات الحية تكون بيئتُها أكثرَ تعقيداً من أطباقِ بتري التي تجري عليها الدراساتُ التجريبيةُ في المختبر، وكانت الخطوة الأولى للفريق البحثي هي ضمانُ إقامةٍ سعيدةٍ لسلالتهم البكتيرية، لذلك زرعوا قضباناً بلاستيكيةً صغيرةً في سيقان الفئران، ثم لقّحوا سيقان الفئران بسلالةِ البكتيريا لأجل محاكاةِ الالتهابات البكتيرية المُزمِنة التي تصيب البشر عند زرع الأجهزة الطبية والمفاصل الاصطناعية، وبعدها حقنوا الفئران بالـ ATC في أوقاتٍ مختلفةٍ على مدار فترة العدوى، وذلك حتَّى يتبدلَ وضعُ المفتاح في الخلايا المنقسمة إلى وضع التشغيل.
وبعد أن استخرجوا البكتيريا من الفئران ونَمُّوها في وسطٍ خاصٍّ في المختبر يحتوي على سكر اللاكتوز؛ وجدوا أنَّ كلَّ البكتيريا تنقسم انقساماً نَشِطاً أوَّلَ 24 ساعة (مستدلِّين على ذلك باستهلاكها لسكَّر اللاكتوز)، ولكن؛ بحلولِ اليوم الرابع انخفضَ العددُ إلى النصف، وظلَّ ثابتاً دون تغيير على مدار فترة العدوى، ممَّا يشير إلى أنَّ عددَ البكتيريا التي تُقتَلُ بواسطة الجسم تُعوَّضُ ويُحفَظُ توازنُها بواسطة الانقسام الخَلوّي الذي يُنتِجُ بكتيريا جديدة، وتختلفُ هذه النتيجةُ عن الاستجابةِ المخبرية التي تتوقَّفُ فيها جميع البكتيريا عن الانقسام حالَ وصولِها إلى القدرة الاستيعابية لبيئتها.
وما إنْ تمكَّنَ الباحثون من إنشاءِ بيئةٍ مماثلةٍ لبيئةِ نمو البكتيريا داخل الجسم؛ حتّى انتقلوا إلى النقطة الأهم؛ وهي اختبارُ استجابةِ البكتيريا للمضادات الحيوية، فبعدَ تنميةِ البكتيريا في ساقَي الفأر؛ قاموا بحقنِه بالمضادِّ الحيويّ الليفوفلوكساسين (levofloxacin)، وعند استخراجِ البكتيريا لاحظوا تناقُصَ العدد الكلي للبكتيريا في الفأر، ولكنَّ عددَ البكتيريا نشيطةِ الانقسام الناجيةِ قد تزايد، ممّا يُعدُّ على النقيض تماماً للافتراض الشائع حول ما يحدثُ في المختبر من موت كثيرٍ من الخلايا المنقسمة عوضاً عن تلك غير المنقسمة كما ذكرنا سابقاً. وبعد ذلك؛ فحصَ الباحثون مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية، ولم يجدوا أيَّ دليل على تطوير البكتيريا لمقاومتِها لتتصدَّى للآثار القاتلة للليفوفلوكساسين، ممَّا أكَّدَ على أنَّ المضادَّ الحيوي ما زال ذو كفاءةٍ وفاعليةٍ في مواجهة البكتيريا، وأنَّ الأخيرةَ لم تتطوَّرْ إلى سلالةٍ أقوى.
ويفسّرُ المؤلِّفُ الأوَّلُ للدراسة هذا الأمر بأنَّ الخلايا النائمة تَنشَطُ لتقومَ "بسدِّ الثغرات" وتعويضِ الخلايا المفقودةِ تحت تأثير المضادِّ الحيوي، فإذا استمرَّتِ البكتيريا في الانقسام بنشاطٍ أثناء فترة العدوى بهدف المحافظة على أعدادها فهذا يدلُّ على حساسيَّتِها للمضاد الحيوي، وهو ما أُكِّدَ عن طريق علاج الالتهاب بواسطة جرعةٍ أكبرَ من المضاد الحيوي.
ويرى أحدُ الباحثين في الدراسة أنّه إذا كان المضادُّ الحيوي لا يعمل؛ ينبغي أن نركِّزَ على محاولة إيجاد وسائلَ جديدةٍ مختلفةٍ لإيصال مزيدٍ منه إلى موقع العدوى، أو تحديدِ آلياتٍ أخرى تؤدّي دوراً في مقاومة المضادَّاتِ الحيوية، بدلاً من الافتراضِ أنَّ تجمُّعاً من البكتيريا غير المنقسمة هو المسؤولُ، ففي نهاية الأمر ليس أمامَنا سوى الفهمِ الصحيح لأجل تطويرِ أسلحتِنا وضمانِ استمراريَّتِنا.
المصدر: هنا
الورقة البحثية: هنا