الفلسفة الموهيَّة
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> الفلسفة
أسَّسَ الفيلسوفُ الصينيُّ موزي "Mozi" وأتباعُه نقاشاتٍ ومناظراتٍ فلسفيّةً متعدّدة في الصّينِ، وكانوا أوّلَ من شاركَ ببحثٍ مُفسِّرٍ عن المعاييرِ الأخلاقيّة الموضوعيّة وقدّمُوا - خطوةً تلوَ الخطوة - حُججاً قويّةً لآرائهم مع أنّها كانت بسيطةً ومشكوكاً فيها، وقد صاغوا أولى النظريات السياسية والأخلاقية الصينية الواضحة؛ إضافة إلى أنّهم طوّروا الشكلَ العالميّ الأوّلَ للتبعيّةِ؛ وهي نسخةٌ متطوّرةٌ قامَتْ على تعدديّة السلع الأساسِ التي أُخِذَتْ على أنّها تُشكِّلُ رفاهيّة الإنسان. المصدر: هنا
وصاغَ فرعٌ من هذه المدرسةِ نظرياتٍ عن دلالاتِ الألفاظِ، وفلسفةِ العلمِ، والأخلاقيّة النفعيّةِ، والمنطقِ، وعلمِ الوجودِ، وشرعوا في استفساراتٍ عدّة في حقولٍ مختلفةٍ مثلَ علمِ الهندسةِ والميكانيك والبصريات والاقتصاد، وتناولوا مشكلاتٍ تقنيّةً أثارتْها دلالاتهم، وقدّموا حُججاً دقيقةً ومختصرةً طَوّرت المذهبَ المُوْهِي، ودافعوا بها عن أنفسهم ضدَّ الانتقاداتِ.
وتتضمن العناصرُ الأساسُ في التّفكيرِ الموهي دعمَ النّظامَين السياسيّ والأخلاقيّ القائمَِين على النفعيّة والموضوعية، ومعارضةَ العدوانِ العسكريّ، وحبَّ الزّهدِ ونبذَ الترفِ، ودعمَ دولةٍ مركزيّةٍ استبداديّةٍ تُقادُ من قِبَلِ حاكمٍ فاضلٍ وتُنَظَّمُ بنظامٍ هرميٍّ بيروقراطيٍّ، وتقديسَ السّماءِ وعبادةَ الأرواحِ في الدّيانة الشعبية التقليديّة.
ويفترِضُ الموهيّون أنَّ الأشخاصَ يندفعون فطريّاً لفعلِ ما يعتقدونَ أنّه صحيحٌ، ولذلك تؤدّي التربيةُ الأخلاقيّةُ السليمةُ إلى تطبيقِ المبادئِ الأخلاقيّة الصحيحةِ، وهم يؤمنون بفاعليّة النقاشِ والإقناعِ لحلّ المشكلات الأخلاقية والسياسية.
الموهيّون و موزي:
عاشَ الفيلسوف موزي في فترةِ كونفوشيوس أو بعدَه، وهما أعظمُ معلِّمَين في عصرِ الولاياتِ المتقاتلةِ، والأكثرُ احتمالاً أنّه ظهر خلال العقودِ المتوسطةِ والأخيرةِ من القرنِ الخامسِ قبلَ الميلادِ؛ معاصراً - تقريباً - سقراطَ في اليونان، واسم "Mozi" غيرُ اعتياديٍّ؛ فهو كلمةٌ صينيّةٌ مشهورةٌ تعني الحِبرَ، لذلكَ فقد توقّع الباحثون أنّه ليسَ اسماً حقيقيّاً لعائلتِه، بل لقبٌ أُعطيَ لَه لأنّه كانَ مرّةً عبداً أو سجيناً، ومن المعروف عن السجناء والعبيد أنَّ وجوههم توشمُ بحبرٍ غامقٍ.
ويمكنُ وضعُ دليلٍ قويٍّ بأن موزي -وليس كونفوشيوس- من استحقَّ لقبَ فيلسوفِ الصّينِ الأوّل؛ إذ كانَ موزي وأتباعُه أوائلَ من أشارُوا إلى أنّ العاداتِ لا تثبتُ أخلاقيّة الأفعالِ، والسّماءُ - أي الكيانُ الشبيه بالإله - هي المسؤولةُ عن تحديدِ المعاييرِ الأخلاقيّةِ للمجتمعِ بهدفِ توحيدِه؛ لأنَّ السماءَ هيَ معيارُ الأخلاقِ المعرفيُّ الموثوقُ في الكونِ، فحفَّزهم هذا الإطارُ الدّينيُّ على إعدادِ عَشَرةِ مبادئَ سياسيّةٍ وأخلاقيّةٍ جوهريّةٍ، وحاولَوا إقناعَ الحاكمِ بتطبيقِها آنذاك.
المبادئُ الموهيّة العشَرة:
مع تطوّرِ حركتهم؛ قدّم الموهيون عشَرةَ مبادئَ مُقسَّمَةٍ إلى خمسةِ أزواجٍ، وتطابِقُ هذه المبادئُ العشرةُ عناوينَ الثلاثيّاتِ العشرِ، والتي تتألفُ الواحدةُ منها من ثلاثِ مقالاتٍ تُشكّل جوهرَ الموهيّة:
"تشجيعُ الخيّرين" و"التعرّفُ إلى الأعلى": إنّ هدفَ الحكومةِ يتمثّلُ بتحقيقِ نظامٍ اجتماعيٍّ وسياسيٍّ واقتصاديٍّ مستقرٍّ بواسطةِ إصدارِ تصوّّرٍ موحّدٍ عن الأخلاقِ، وتُؤدّى مهمّةُ التعليمِ الأخلاقيّ عبْرَ تشجيعِ الجميعِ على "معرفةِ الأعلى"؛ أي معرفةِ نموذجِ الأفعال المثاليّ ومكافئةِ من يؤدّي تلك الأفعالَ الصحيحةَ، ومعاقبةِ من لا يؤديها، وتكون تلك الحكومةُ مركزيّةً بيروقراطيّةً يحكمُها ملكٌ فاضلٌ، ويُعَيَّنُ المسؤولون على أساسِ الكفاءةِ والمزايا الأخلاقية؛ دون النظرِ إلى الوضعِ الاجتماعيِّ للمرشحين وأصولهم.
"الرعايةُ الشاملة" و"إِدَانةُ العدوان" : لتحقيقِ النظامِ المجتمعيّ؛ ولتجسيدِ الفضيلةِ الرئيسة للرِن "الخير"؛ ولاهتمامِ الناسِ ببعضهم؛ ولعنايةٍ أكبرَ بِحَيواتِهِمْ الخاصّة وأُسَرِهم؛ لهذا كلِّه فالاعتداء العسكري خاطئٌ، وللأسبابِ ذاتها التي تجعلُ من القتلِ والسّرقة أعمالا إجراميَّةً؛ وهي الضررُ بالآخرينِ لتحقيقِ منفعةٍ أنانيّةٍ، دون أن يحصلَ كلّ من السماء والأرواح والمجتمع ككلٍّ على أيّةِ فائدةٍ.
"الاعتدالُ في الاستخدامِ" و"الاعتدالُ في الدفن": لإفادةِ المجتمعِِ؛ وللحفاظِ على رفاهيّةِ الناسِ؛ يجبُ الحدُّ من الهدرِ بالإسراف والحدُّ من الرفاهيّة غيرِ النّافعةِ أيضاً، ومنها الجنازاتُ الباهظة (وقد كانت تلك الجنازاتُ عُرفاً في الصين القديمة).
"غايةُ السّماءِ" و"فهمُ الأرواحِ": السّماءُ هي أسمَى نموذجٍ أخلاقيٍّ، لذلك فغايتُها تحديدُ الخيرِ والشّرِّ، وتكافِئُ السّماءُ من يطيعُها وتعاقبُ الذين يتحدَّوْنَها؛ لذلك يجبُ على الأشخاصِ السّعيُ وراءَ الخيرِ، ويعتقدُ الموهيّون بأنّه يمكنُ تحقيقُ تقدّمِ المجتمعِ من خلالِ تشجيعِ الإيمانِ بالأشباحِ والأرواحِ التي تكافئ الخيّر وتعاقبُ الشريرَ.
"إدانةُ الموسيقى" و"إدانةُ القدر" : يعارضُ الإنسانُ الخيّرُ التسليةَ المُفرِطةَ بالموسيقا وغيرها من مظاهرِ الترف التي يستمتع به الحكّام؛ لأنّها تهدرُ الثرواتِ التي يمكنُ استخدامُها في الطّعامِ والكِساءِ. وليس القضاءُ والقدرُ "خيراً"؛ إذ تكون حياتُنا بهذا الإيمانِ مُقرَّرةً مُسبَقاً وتغدو أفعالُ الإنسانِ بلا فائدةٍ، وذلك يتعارضُ مع سعيِ الإنسانِ وراءَ الثروة الاقتصادية.
يمكن الالتزامُ بمبدَأٍ دون غيره اعتماداً على ظروفِ الدولة:
إذا كانتِ الدولةُ بحالةِ فتنةٍ واضطرابٍ فحينها يجبُ تطبيقُ "تشجيع الخير" و"التعرف إلى الأعلى"، فإذا كانت فقيرةً تطبّق "الاعتدالَ في الاستخدام" و"الاعتدال في الدفن"، وإذا كنتَ تفرطُ في المرحِ الموسيقيّ تُطبّق "إدانةَ الموسيقا" و"إدانة القدر"، وإذا كانتْ فاسقةً تُطبّق "غايةَ السماء" و"فهمَ الأرواح"، وإذا كانتْ مهددةً بالاعتداءِ تُطبِّق "الرعايةَ الشّاملة" و"إدانة العدوان".
وبذلك عَدَّ الموهيّون فلسفتهم أسلوباً للحياة وطريقةً لجعل المجتمع أخلاقياً وتطويرهِ ماديّاً؛ إذ سادَ مبدَأُ النفعيّةِ في فكرهم، ويزيدُ الفهمُ الأشملُ للفلسفة الموهيّة من فهمنا للكونفوشيوسيّة المبكرة، وغيرها من المدارس الصينية الكلاسيكية.