العلمانية الفرنسية الجزء الأول
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> الفلسفة السياسية
يمكنُ إرجاعُ نشأةِ فكرةِ العَلمانيّةِ وتطوّرها في فرنسا إلى سببٍ واحدٍ وهو القمع الدينيّ الذي كانتْ تمارسُه الكنيسةُ على النّاسِ منذُ العصرِ الوسيطِ إلى ما قبلِ الثورةِ الفرنسيّةِ التي اشتعلتْ عام 1789، وقد أدّى هذا القمعُ إلى حروبٍ دينيّة مزّقت فرنسا وأبادتِ الكثيرَ من سكّانها قبل حربِ الثلاثين عاماً 1648 - 1618، وقبلَ مذبحةِ سان بارتيليمي، التي بدأتْ في عامِ 1572 في قلبِ باريس، وحصدتْ مايقاربُ ثلاثينَ ألفاً من البروتستانت، واتسعت هذه المجازرُ من باريسَ إلى أكثرِ من عشرينَ مدينةً في فرنسا. 1 - هنا 2 - العلمانية وسياسات الدولة تجاه الدين، أحمد ت. كورو 3 - الاسلام والعلمانية، أوليفيه روا 4 - الدين والعلمانية في سياق تاريخي الجزء الثاني، الدكتور عزمي بشارة 5 - العلمانية، غي هارشير، ترجمة رشا الصباغ
وأدّى ذلك إلى اشتعالِ نارِ العداوةِ في قلوبِ النّاس ضدّ الكنيسةِ ورجالاتِها، وأحدثَ نوعاً من الغضبِ الشّعبيّ من الدّينِ، ومن استعمالِ رهبانِ الكنيسةِ له لإخضاعِ الإنسانِ لأهوائهم ورغباتهم البشرية.
ثمّ اندلعتِ الثّورةُ الفرنسيّةُ وانتفضَ النّاسُ على النّظامِ الملكيّ وعلى سلطةِ رجالِ الدّين وانتهازيّتهم.
وكان من نتائجِ هذه الثّورةِ إصدارُ المفكرينَ بياناً عامّاً سُمّيَ بالإعلانِ العامِّ لحقوقِ الإنسان والمواطنِ، وجاء في نصِّ المادّةِ العاشرةِ منه: "لا يمكنُ إزعاجُ أحدٍ بسببِ آرائه، ولو كانتْ دينيّةً بشرطِ ألّا يكونَ إظهارُ هذه الآراء مُخلاً بالنظامِ العام، وإن كانت هذه المادّة لا تنصّ على العَلمانية إلا أنّها ممهدٌ لقبولِها".
ثمّ أدّى تطبيقُ هذه المادّة إلى حريّةٍ جديدةٍ في الآراءِ، بالرّغمِ من ذلكَ ظلّتِ الكاثوليكيةُ هي الدّيانةَ الرّسميّةَ.
وفي عامِ 1795 أُعلنَ عن قيام أوّلِ دولةٍ علمانيّة في فرنسا؛ إذ لا يجوزُ للدولةِ الاعترافُ بأيِّ دينٍ من الأديانِ أو تقديمُ الدّعمِ له. ( يمثل هذا الدستور مرجعية للقانون الصادر في عام 1905.)
ويمكنُ تلخيصُ ثلاثِ نتائجَ مباشرةٍ لعَلْمَنَةِ الدّولةِ بمعنى فصلها عن الكنيسة:
أولاً توقّفَ الإكليروس عن أن يكونَ طبقةً من طبقاتِ الدّولةِ الاجتماعيّة السياسيّة، وثانياً أنّ قوانينَ الكنيسةِ صارتْ غيرَ مُلزمةٍ عموماً، ثالثاً تتوقّفُ الكنيسةُ عن التّدخلِ في صوغِ قوانينِ الدولة.
إلى أن جاءَ نابليون بونابرت، وأصدرَ قانون الكونكورد سنة 1801.
ونص هذا القانونُ الجديدُ على أن الكاثوليكية هي دينُ غالبيّة الفرنسيين، لكن الدولة ليس لها دينٌ رسميٌّ، وكانَ هدفُ نابليون من قانونِ الكونكورد هو التصالحُ مع الأديانِ وتنظيمُ علاقاتِها مع الدولة.
ومن نتائجِ هذا القانون وضع اللبنة الأولى للحالةِ المدنيّة والزواجِ المدنيّ؛ إذ سيصبحُ النّاسُ قادرين على الزواجِ في مؤسساتِ الدولة الرسميّة دون إلزامهم بإجراءِ الزواجِ في أروقة الكنيسة.
وظل قانون الكونكورد ساريَ المفعولِ طيلةَ قرنٍ من الزّمان، إلى أن صدر قانون آخر عام 1905م يُلغي الكونكورد ويحلُّ محله.
قانون 1905
في شهرِ كانون الأول عام 1905 صوتتِ الجمعيّة الوطنيّة الفرنسيّة بالأغلبيةِ على قانونِ فصلِ الكنيسةِ عن الدولةِ، ممّا سمحَ لِلكاثوليكيين بالزواجِ من طوائفَ أخرى.
وتنصُّ المادّةُ الأولى من القانونِ على أنّ الجمهوريّةَ تَحمي حريّة المعتقدِ وتضمنُ الممارسةَ الحرّةَ للعِباداتِ بما فيها الصّالح العامُّ، وهو يعاقبُ كلّ من يحاولُ بطريقةٍ أو بأخرى التّأثيرَ في شخصٍ آخرَ يدفعُه إلى ممارسةِ عبادةٍ ما أو الامتناعِ عنها.
لا تعترفُ الجمهوريّة بأيةِ عبادةٍ، ولا تدفعُ لهم أجراً أو تقدّم مساعدةً مالية، وألغيت ميزانيّة العبادات، واختفت طقوسُ العبادة، ولم يعدْ رئيسُ الدولة يُسمي للأساقفةِ حقّ الصدارةِ، وأُبطلَتِ امتيازاتُ القضاء كلها، وعلى هذا غدتِ الكنائسُ كياناتٍ خاصّةً، وحريّة العبادة مكفولة غير أن مظاهرها العلنية قد عُلْمِنَتْ.
وبعدَ صدورِ القانونِ سارعَ رجالُ الكاثوليك والصحافة إلى جانبِ البابا بيوس العاشِر إلى إدانةِ القانون، ولم تعترف الكنيسة بهذا القانون حتى عام 1924
كما أنّ قانونَ 1905 الذي أقامَ الفصلَ بين الكنيسةِ والدّولةِ لايستخدم كلمة عَلْمانية وكان لابدّ من انتظارِ دستور العام 1946 لكي تظهرَ هذه الكلمةُ بجلاءٍ كمبدأٍ دستوريٍّ تترتبُ عليه نتائجُ قانونيّةٌ، ولكن من دون سابق تحديد دقيق لها.
واستمرّ القانونُ ساريَ المفعولِ حتى صدورِ دستورِ 1946 للجمهورية الرابعة و1958 للجمهورية الخامسة،ونصتِ المادّةٌ الثّانية من دستور 1958 على أن:
" فرنسا جمهوريّة عَلمانيّة تكفل المساواةَ أمامَ القانون لكافّة المواطنين، دونَ أيّ تمييزٍ في ما يتعلَّقُ بالأصلِ، أو العرقِ أو الدّينِ، وهي تحترم جميع المعتقدات."
وبالتّالي غدتِ العَلْمانيّة التّشريعيّة(قانون 1905) عَلمانيّةً دستوريّةً.
وظهرَ في فرنسا نوعان من العلمانية:
العَلْمانيّة الحازمةُ، وتهدفُ إلى حصرِ الدّين في الوعي الشّعوريّ للفردِ أو في المنزل، ودائماً ما حظيتِ العَلمانيّة بالعداءِ من رجالِ الدينِ الكاثوليك ومن المسلمين في الوقت الحاضر.
والعَلمانيّة السلبيّة التي تبنّى أنصارها فصلَ الكنيسة عن الدولةِ من ناحيةٍ والحريّةَ الدينيةَ من ناحيةٍ أخرى وليس باعتبارِها أيدلوجيّةً مناهضةً للدين.
أي في حالة السلبيّة لا يُقصى الدّين والرموز الدينية كلياً بينما يستبعدُ في حالةِ العَلْمانيّة الحازمة.
ويجدُ الكاتبُ أحمد كورو في كتابه "العلمانية وسياسة الدين تجاه الدول" أنّ العَلمانية الحازمة المتشددة هي اليدُ الطولى في فرنسا ( كما أنّها نموذجٌ للعلمانية في تركيا، بينما هيمنتِ العلمانية السلبية في الولايات المتحدة).
انطلاقاً من أن سياساتِ الدّولةِ في فرنسا جاءتْ نتاجاً للصراعاتِ التي نشبتْ بين هذه القوى، تضمنتْ هذه السّياسات عدّةَ استثناءاتٍ يمكنُ تلخيصها في ثلاثةِ أمورٍ أساساً:
1 - لم تسرِ القوانينُ على منطقة الألزاس موسيل، ويُعزى السببُ الرئيسُ في هذه الحالةِ الاستثنائية إلى أنّ هذه المنطقةَ كانتْ جزءاً من دولةِ ألمانيا في الفترة من 1871 - 1919 وهي الفترةُ التي شهدتْ حدوثَ العَلمانية القانونية.
2- لم تلجأْ فرنسا إلى فرضِ القوانينِ العَلمانيّة على ستٍّ من مستعمراتِها في الخارج، حيث كانتْ تسودُها عدّة أنظمةٍ قائمةٍ على عدمِ فصلِ الكنيسةِ عن الدولة.
على سبيل المثال في مستعمرةِ غويانا الفرنسية، كانَ المذهبُ الكاثوليكيُّ الدّينَ المعترفَ به، حيث تدفع فرنسا رواتب رجال الدين الكاثوليكي.
3- اعترافُ فرنسا والحكوماتِ المحليّة منذ صدورِ قانون 1905 بالغالبية العظمى من الكنائس الكاثوليكية البالغ عددها 45 ألفَ كنيسة وتمويل ترميمِها في محاولةٍ للحفاظِ عليها.
وبالتالي نجدُ أنّ الثّورةَ الفرنسيّة هي العاملُ الرئيسُ لنشوء العَلمانيّة في فرنسا، وقانون عام 1905 كان الركيزةَ الأساسَ للنظامِ العَلماني الجمهوري الفرنسي.
إذ شكلتْ بدايةً حكْمَ الجمهوريّةَ الثّالثة 1875 - 1905 المنعطفَ الحاسمَ في تاريخ العَلمانية في فرنسا، وهي الفترةُ التي حلّت فيها أيديولوجيةُ العلمانية الحازمة محلّ الهيمنةِ الكاثوليكية في إطارِ هيكلِ الدولة بوجهٍ خاص، وفي الحياة العامة بفرنسا بوجه عام.
المصادر: