ذكرى ميلاد العبقريّة المُرعبة : بليز باسكال
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> أعلام ومفكرون
ولِدَ في 19 حزيران/يونيو عام 1623 من عائلةٍ برجوازيّةٍ في منطقةِ "كليمونت" الفرنسيّة، وتربّى في بيتِ علمٍ وثقافٍة.
وقد عانى منذُ طفولته المُبكّرة من مظاهرِ أمراضٍ عديدةٍ، وبعدَ عيدِ ميلادِه الثّامن عشر لمْ يعشْ يومًا دونَ ألمٍ؛ إذ كانَ يُعاني من عدّة أمراضٍ(السل والتهاب الكلى) وهذه الأمراضُ تتزامنُ غالبًا معًا، والتّي تحدثُ كثيرًا مع قلق واكتئاب واضطراب عاطفي.
بليز باسكال هو فيلسوفٌ، وعالِمُ رياضيات، ولاهوتي، ومُختَرِع، وفيزيائي، وسيّدٌ في النّثرِ، وَعلى الرغم من اعتلالِ صحته المُزمِن؛ فقد قدّمَ إنجازاتٍ عبقريّةً ومساهماتٍ تاريخيّةً في مجالات متعددة، فَوضع حجر الأساسِ في نظريّة الاحتمالاتِ المُعاصِرة، وصاغَ ما يُعرَف بمَبدأ باسكال للضغط، ونشرَ نظريةً في اللاهوت أيضًا تُعالِج تجربة معرفة الله عن طريق القلب لا العقل، إضافة إلى اختراعَه جهاز حاسوب ميكانيكي والآلة الحاسبة.
نظرية المعرفة عند باسكال
وبوصفه عالِمًا وفيلسوفًا بِالعلوم؛ دافعَ باسكال عن المعرفةِ التجريبية وقد عارضَ العقلانيّة والطريقة الديكارتية للاستنتاجِ (لمعرفة أكثر عن المنهج الديكارتي: هنا )
وعارضَ التفكيرَ الميتافِزيقي وتوقيرَ سلطة علماء اللاهوت في العصور الوسطى! لكنّه وافقَ الديكارتيّة بأنّ البديهياتِ والمبادئَ الأولى للرياضيّات والهندسة والمنطق يمكن معرفتها عن طريق العقل، وبها حصرًا يُقبَلُ مبدأ ديكارت (البداهةَ والوضوحَ) دليلًا صادقًا على الحقيقة، وما سوى تلك المبادئ الأولى قابل للشك ولن تعطي الديكارتيّة نتائج مُجدِية أو مؤكّدة.
ويرى باسكال أنّ معرفتنا بالعالم الطبيعي تتحقق عبرَ الحواسِّ ويجبُ التّحققُ منها تجريبيًّا، لكنه لم يلغِ دورَ العقل في عمليّة حصولِ المعرفة؛ إذ إنّه يُوجِّه الملاحظة، ويُشكّل الفرضيات، والعقلُ يوافق أو لا يوافق على النتائج النهائية استنادًا إلى الأدلة الماديّة؛ أي التجربة؛ وليس على المنطق الاستدلالي وغيره من وسائل العقلانيّة.
وتساءل عن مستوى التأكيد في قولنا بثقةٍ إنّنا نعرفُ ما نعتقد أنّنا نعرفه.
وفي مقدمة كتابه حول الفراغ؛ أعلنَ أنّ العقل والحواس وحدهما من يحكمانِ الحقيقة العلمية؛ إذ لا مكان لسلطة الكتاب المُقدَّس ورجال الدّين فيهما، وإنما يجب احترامهما في التاريخ والفقه واللغات وبالطبع في اللاهوت، ولكن في العلم الفيزيائيِّ؛ فإنّ تقديسهم سيُفسدُ الحقيقةَ ويُعرقل مسيرةَ تقدُّم المعرفة.
ولكن نظرية المعرفةِ عند باسكال لم تنتهِ بَعد! ففيها لغزٌ غامضٌ وهو القَلب كمصدر للمعرفة، فكيف لفِيلسوف تجريبي وعالِمٍ أن يعتقد بالقلب كمصدر من مصادر المعرفة؟ ولم قُدِّمَ تفسيرٌ واضحٌ عمّا قصده باسكال في "القلب"، فَقدّم الباحث الكاثوليكي رومانو غاردِيني ترجمات "للقلب" كالحب والإحسان، وقد اُقترِحَ أيضًا بأنّ القلب هو شيءٌ يتخطّى العقل وما وراءه، كما لو أنّه شكلٌ من أشكال الذّكاء الطبيعيّ أو الإلهي في أعلى حدّ من الإدراك؛ والتّي يمكن لِبعض من المَلَكَات الغريزيّة أن تُكمّله أو تتجاوزه، ومن المُحتَمل أن يكونَ له علاقة بما يصفه باسكال في مكان آخرَ بمعنى "الجوهر" وهو المُكوّن البديهي والخفي للفكر الذي يراه بطريقة ما أو يخترقه مباشرةً إلى حقائق الروح الهندسية - الذكاء التسلسلي أو المنطقي - والذي يصل عبر خطوات تدريجيّة استنتاجيّة فقط، وبذلك سيبقى إيجاد التفسير بمثابة تحدٍ لقرّاء باسكال.
رهان باسكال
جادَل باسكال في إمكانيّة وجود الله عبر رهانٍ قائلًا فيه: إذا راهنت على وجوده فإنّك سَتفوز بِمُكافأة لا نهائيّة (أيَ الخلود في الجنّة) في خطر خسارةٍ صغيرة جدًّا (أي الملذَّات الدنيويّة التّي سيكون لزامًا عليك التخلّي عنها).
وأمّا إذا راهنت على عدم وجوده فإنك تخاطر في إمكانية خسارة لا نهائية؛ أي خسارة الجنّة، وتخاطر في إمكانية الخلود في الجحيم أيضًا لمجرَّدِ كسب محدود (التمتُّع بالملذّات الدنيويّة).
وقد كان باسكال كاثوليكيًّا طيلة حياته، والذّي جعلَ إيمانه أعمقَ ليس أدلة عقليّة، بل تجربةً غامضة غيّرت حياته، لذا من غير المُرجّح بأنّه قد أعطى اهتمامًا جادًّا للرهان، لأنّه لم يكن محتاجًا لأيّة قناعة أخرى غير القناعة العاطفيّة داخل قلبه.
وبذلك نرى قدرة باسكال على تكوين أفكارٍ غريبةٍ تبدو مألوفةً وتكوين أفكارٍ مألوفةٍ تبدو غريبةً، وقد وُصِفَ بأنّه المُعادِل الفكريّ للبرق.
"الطبيعة هي مجالٌ لا نهايةَ له؛ مركزُه في كل مكان، ومحيطه في لا مكان"
مصادر المقال
هنا
هنا