طريقة ديكارت الرياضية وأركان مبدأ العقل
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> أعلام ومفكرون
يرى ديكارت أن أول إصلاح فكري يجب على الفيلسوف أن يقوم به هو الظفر بطريقة قويمة توصله إلى المعرفة الحقيقية، ثم الأخذ بهذه الطريقة في النظر والعمل. فديكارت لم يقتنع بالطرق المألوفة في منطق أرسطو، ولا بتلك القواعد المنطقية التي شاعت في القرون الوسطى، لأنها كما قال تفرض الشيء الذي تطلب البحث عنه، ولا تصنع شيئاً أكثر من أن تعرقل حركة الذهن الطبيعية، لا بل هي توجه عقولنا في دائرة آلية، وتعفينا من التفكير، دون أن تصل بنا للكشف عن الحقيقة.
فيقول ديكارت، لنبحث إذاً عن طريقة جديدة تنقذنا من العقم، وتدفعنا إلى الأمام. وإن هذه الطريقة الجديدة هي الطريقة التي سلكها الرياضيون في مباحثهم اليقينية. وهي لا تنطبق على الرياضيات وحدها، بل تنطبق على جميع العلوم، لأن العلوم في نظر ديكارت مرتبطة ببعضها البعض، والطريقة التي تصلح لمعالجة الأشياء البسيطة، تصلح في الوقت نفسه لمعالجة الأشياء المركبة.
إن المثل الأعلى للعلم الحديث عنده هو العلم الرياضي. بل يتعدى ذلك ويقول بأن العلم لا يكون علماً حقيقياً إلا إذا كان يقينياً. لقد كان موضوع العلم عند فلاسفة القرون الوسطى البحث في الكيفيات. أما ديكارت فقد جعل الكمية موضوع العلم، وجعل المنهج الرياضي أساساً لجميع العلوم. فالطريقة التي يريد ديكارت أن يسلكها في مختلف العلوم إنما هي طريقة الرياضيات. والمنطق ليس فيه وحده كبير الفائدة لأنه يقتصر على البرهان، أن حقيقة من الحقائق منطوية في حقيقة أخرى، ويعجز عجزاً تاماً عن أن يكشف لنا أية حقيقة جديدة. وهو أيضا يصلح لإيضاح المعلوم لا لتعلم المجهول. فطريقة ديكارت ليست مقتبسة إذاً من المنطق، وإنما هي مقتبسة من الهندسة والجبر.
فالهندسة تسير على طريقة التحليل. والتحليل مشتمل على تأليف سلسلة من القضايا، أولها القضية المراد إثباتها، وأخرها القضية المعلومة، وما ينطبق على القضايا الهندسية ينطبق أيضاً على حل المعادلات الجبرية. وجمع ذلك كله أن يستبدل العقل بالأشياء المركبة أشياء بسيطة، وبالأشياء الصعبة أشياء سهلة. قال ديكارت : "لم أجد كبير عناء في البحث عن الأمور التي يجب الابتداء بها، لأني كنت أعرف من قبل أن الابتداء يجب أن يكون بأبسط الأشياء وأسهلها معرفة ".
و إذا أردنا أن نضفي على العلم يقينا يعدل يقين الرياضيات، وجب علينا أن نبحث عن المعاني الواضحة البينة، بفعلين اثنين: هما الحدس والاستنتاج. بوصفهما مبدأين للطريقة. وهما العقل نفسه بالمحصلة.
والحدس، هو عند ديكارت الاطلاع العقلي المباشر، الذي يدرك به الذهن بعض الحقائق التي تذعن لها النفس وتوقن بها. فالحدس عند ديكارت عمل عقلي يدرك به الذهن حقيقة من الحقائق. لأن الحدس عنده يدرك الطبائع البسيطة التي يتألف منها كل شيء. والطبائع البسيطة هي الخواص الطبيعية المجردة التي يدركها الذهن مباشرة ويستطيع أن يستخلص منها جميع الطبائع الأخرى. والحدس لا يقتصر على المعاني والأفكار، بل يتناول أيضا حقائق لا تقبل الشك. كعلمك أنك موجود، وأنك تفكر، وأن الكرة ليس لها إلا سطح واحد. ومعنى ذلك أن الوجود والفكر هما طبيعتان بسيطتان، لا ندركهما إلا في موضوع، ولا نستطيع أن نعزلهما عنه إلا بالتجريد.
وأخيرا بالحدس ندرك الرابطة التي بين إحدى الحقائق والحقيقة التابعة لها مباشرة. وهذا يعني أن الشيئين المساويين لشيء لثالث متساويان، فهذه البديهية أو الأولية إنما ظهرت للعقل من إدراك الرابطة التي بين هذه الحقائق إدراكاً حسياً.
إننا ندرك بالحدس ثلاثة أشياء إذن :
- الطبائع البسيطة.
- الحقائق التي لا تقبل الشك.
- الروابط التي تربط الحقائق بعضها ببعض.
ولذلك سمى ديكارت الحدس نوراً طبيعياً أو غريزة عقلية، نكتسب بها معارف كافية للبرهان على قضايا كثيرة.
والفعل الثاني الذي يعتمد عليه ديكارت لبلوغ اليقين هو الاستنتاج. وهو طريقة نفهم بها جميع الحقائق التي هي نتيجة لحقائق أخرى. وهذا الاستنتاج الديكارتي يختلف عن القياس المنطقي الذي وضع أرسطو قواعده. لأن القياس القديم إنما هو ارتباط بين التصورات، أما الاستنتاج فهو ارتباط بين الحقائق. الاستنتاج هو- حركة فكرية متصلة تدرك الأشياء واحداً بعد الأخر إدراكاً بديهياً-. ولا محل في الاستنتاج الديكارتي إلا للقضايا اليقينية، في حين أن القياس الأرسطاطاليسي يفسح المجال لقضايا ظنية واحتمالية، وبهذا قد اختلف رينيه ديكارت عن الفلاسفة والمفكرين والعلماء من قبله الذين تقيدو بتصور أرسطو للعلم والفكر.
المراجع والمصادر وقراءات أخرى:
مقالة الطريقة لحسن قيادة العقل وللبحث عن الحقيقة في العلوم، رينيه ديكارت، ترجمة جميل صليبا (بيروت: اللجنة الدولية لترجمة الروائع الإنسانية، 1953) ص12،16.
ديكارت، نجيب بلدي (القاهرة :دار المعارف ،الطبعة الثانية )، ص 14.
فلسفة ديكارت و منهجه دراسة تحليلية و نقدية، مهدي فضل الله (بيروت:دار الطليعة،الطبعة الثالثة،1996) ص61.