بماذا تتفوق الأحياء الدقيقة على البشر؟
البيولوجيا والتطوّر >>>> الأحياء الدقيقة
يولد يوميًا قرابة 360000 طفل في العالم، يحمل كلٌّ منهم على الأقل 60 طفرةً في مادته الوراثية؛ بعضها مسؤول عن أمراض وراثية خطيرة (بما فيها السرطانات)، وبما أنَّ البشر يُعَدُّون أحد أكثر الكائنات تعقيدًا - إن لم نكن أعقدها - فإنه يصعب التصديق أنَّ كائنات وحيدة الخلية كالبارامسيوم لديها آليات إصلاح وتضاعف للحمض النووي منقوص الأوكسجين DNA ذات كفاءة أعلى من تلك التي نملكها، وأنَّ هذه الآليات تُمكِّنها من الحفاظ على مادتها الوراثية دون تغيير؛ أي دون أيَّة طفرة، وذلك لآلاف الأجيال المُتتالية!
ولكي نُفسر هذا الفرق الواضح بين الكائنَين؛ يجب أن نعود إلى بدايات ظهور نوعنا نحن البشر، ومعرفة كيفية تطور العوامل التي سمحت بتجاهل بعض الطفرات في الجينوم عند التكاثر.
فعلى الرغم من وجود مليارات البشر في يومنا هذا؛ لكنَّ أعدادهم في بداية ظهور نوعنا لم يكن يتجاوز بضع آلاف، وإننا نستطيع استنتاجَ علاقة عكسية عن طريق البيانات الموجودة عن عدة كائنات حية، تربط هذه العلاقة بين معدل حدوث الطفرات وحجم الجماعة الابتدائية لكل نوع من هذه الكائنات؛ ففي الجماعات الكبيرة يُطبَّق مبدأ الاصطفاء الطبيعي بفعالية أكبر منه في الجماعات الأصغر حجمًا؛ أي إنَّ الجينات الضارة في الجماعات الصغيرة - مثل البشر الأوائل - تكون مقاومتها لعملية الاصطفاء أكبر من تلك التي في الجماعات الأكبر حجمًا؛ بما فيها الجينات الضارة التي تشجع حدوث الطفرات.
ونستطيع عند فهم هذه العلاقة بين حجم الجماعة ومعدل ظهور الطفرات الإجابةََ عن عدة تساؤلات؛ منها ما يتعلق بدراسة أصل مرض السرطان وكيفية تطوره، ومنها ما يكشف الستار عن بعض خبايا الشجرة التطورية؛ مثل تحديد زمن نشوء الأنواع.
وعلى سبيل المثال؛ فإنَّ الطفرات تحدث عندما تنسخ الخلايا حمضَها النووي نسخًا خاطئًا في أثناء تضاعفه، أو تفشل في إصلاح التلف الناتج عن تعرض الحمض النووي للمواد الكيميائية أو الإشعاع، وقد تزيد بعض هذه الطفرات من معدَّل ظهور طفرات أخرى جديدة، ولكن ليست جميع الطفرات ضارة؛ فبعضها ضروري لتكيُّف الكائنات مع بيئتها المحيطة والحفاظ على وجودها، فمن لا يتغير ينقرض!
وافترض العلماء سابقًا أنَّ معدل التطفر ثابت بين الأنواع المختلفة، واعتمدوا على مقارنة الاختلافات في المادة الوراثية بين نوعَين أو جماعَتين مُعيَّنتَين لتحديد متى تمايزا عن بعضهما، أمَّا الآن مع توفر إمكانية مقارنة المادة الوراثية (الجينوم) لكل من الآباء والأبناء؛ فإنَّه يمكن حساب العدد الفعلي للطفرات الجديدة التي ظهرت في كل جيل؛ وبهذا أصبح بالإمكان إعطاء قيم قريبة للحقيقة لمعدل التطفر لأكثر من 40 نوعًا من ضمنها رئيسيات؛ كالقردة التي تملك معدلات مشابهة لتلك التي يملكها الإنسان. وبمقارنة معدلات التطفر بين الإنسان وبعض الأحياء الدقيقة كالإشريكية الكولونوية أو البارامسيوم، نلاحظ وجود فجوة كبيرة بينهما بمعدلات تطفر أقل للأحياء الدقيقة ذات الأعداد الهائلة مقابل أعدادنا الضئيلة نسبيًا.
يشير هذا الاختلاف بين الكائنات الحية في معدل التطفر إلى أنَّ الاصطفاء الطبيعي عند بعض الأنواع غير قادر على استبعاد الجينات الضارة التي تسبب زيادة معدل حدوث الطفرات في الجينوم؛ كتلك التي تدخل في عملية إصلاح الحمض النووي، ويمكن تفسير هذه الظاهرة بفرضية حاجز الانحراف Drift-barrier hypothesis التي نستطيع تلخيصها بما يأتي:
يكون معدل التكاثر في الجماعات الكبيرة عالٍ، وعند ظهور طفرات ضارة تكون احتمالية ظهور طفرة أخرى مفيدة تقاوم تأثير الطفرة الضارة عالية، ولكن تقلُّ هذه الاحتمالية في الجماعات الصغيرة، فيستمر الأفراد بالتكاثر وتناقل تلك الطفرة الضارة عن طريق الأجيال لتصبح هي السائدة.
لقد تطلَّب تكوين هذه التنويعة الضخمة من المادة الوراثية في 7.6 مليار بشري على وجه الأرض قرابة 10000 إنسان فقط، وهو عدد مماثل للذي عند الرئيسيات الأخرى، ويُعبِّر هذا العدد عن حجم الجماعة الفعلية Effective population size التي تُمثلُنا نحن البشر باختلاف جيناتنا، وهو عدد صغير جدًّا نسبيًّا مقارنة مع الكائنات الحية الدقيقة التي يصل حجم الجماعة الفعلية عندها إلى آلاف أضعاف هذا العدد، مع الأخذ بالحسبان أيضًا أننا نميل كبشر إلى تشكيل مجموعات أصغر حجمًا ونتكاثر ضمنها؛ وهذا ما يؤدي إلى استمرارية بقاء هذه الطفرات الضارة وصعوبة التخلص منها بآليات الاصطفاء الطبيعي.
قد نكون أذكى الكائنات على وجه الكرة الأرضية؛ ولكننا بالتأكيد متأخرون بأشواط في سباق التطور فيما يخصُّ الحفاظ على جيناتنا سليمة، وبسبب معدل تكاثرها العالي وكثرة أعدادها تأخذ الأحياء الدقيقة المرتبة الأولى في هذا السباق بجدارة.
المصادر:
هنا
هنا
عدد المواليد يومياً: