فرضيات تطور الفيروسات
البيولوجيا والتطوّر >>>> التطور
يمثل التاريخ التطوري للفيروسات موضوعاً مشوقاً و شائكاً بنفس الوقت لعلماء الفيروسات والأحياء. لطالما عانى هؤلاء العلماء ليجدوا تصنيفاً للفيروسات و موقعاً لها على شجرة الحياة المعروفة بسبب التنوع الشديد لها. فقد يكون أصل الفيروسات بعض العناصر الوراثية التي اكتسبت القدرة على الانتقال بين الخلايا، أو قد تكون تحولاً عن أحياء حرة في السابق وتحولت إلى كائنات طفيلية. أو قد تكون الفيروسات طلائع الحياة كما نعرفها اليوم.
أساسيات الفيروسات:
إن الفيروسات أحياء متنوعة جداً. فعلى عكس كل الكائنات الحية الأخرى، تمتلك بعض الفيروسات كفيروس الشلل poliovirus جينوم من الRNA، أما بعضها الاخر يمتلك جينوماً مركباً من الDNA كفيروس الحلأ. علاوة على ذلك لبعض الفيروسات حمض نووي مضاعف السلسلة و لبعضها الآخرحمض نووي مفرد السلسلة. كذلك، فإن بنية الفيروسات و استراتيجيات انتساخها ليست أقل تنوعاً. على الرغم من ذلك ، هناك بعض السّمات المشتركة بين الفيروسات، فالفيروسات بشكل عام صغيرة الحجم، بقطر أقل من 200 نانومتر غالباً، و هي قادرة على التناسخ داخل الثوي(المضيف) فقط، فالفيروسات لا تمتلك ريبوسومات، و هي جزيئات أساسية لتركيب البروتينات في الخلايا.
هل الفيروسات حية؟
للإجابة على هذا السؤال، علينا أن نعرّف أولاً ماهو معنى الحياة، فعلى الرغم من تنوع تعريفات الحياة، يتفق علماء الأحياء أن كل الكائنات الحية تمتلك صفات أساسية: فهي قادرة على النمو، التكاثر، الحفاظ على التوازن الداخلي، الاستجابة للمنبهات، و القيام بوظائف استقلابية عديدة. بالإضافة لذلك، فالكائنات الحية تتطور مع مرور الوقت.
هل تنطبق هذه المعايير على الفيروسات؟
نعم، ولا. نحن نتفق على أن الفيروسات تتكاثر، فاذا التقطت فيروساً من عطاس شخص بجانبك، قد تعاني من المرض بعد بضعة أيام نتيجة تكاثر الفيروس داخل جسمك. نحن نعرف أيضاً أن الفيروسات تتطور فنحن بحاجة للقاح الأنفلونزا سنويّاٍ لان فيروس يتغيّر من سنة لأخرى.
و لكن، لا تقوم الفيروسات بأي عمليات استقلابية. بشكل خاص، تختلف الفيروسات عن باقي الكائنات بأنها لا تستطيع أن تنتج جزيئات الطاقة ATP. لا تمتلك الفيروسات أيضاً الآليات الخاصة بترجمة المادة الوراثية، كما قلنا سابقاً. فالفيروسات لا تمتلك ريبوسومات و بذلك فهي غير قادرة على صنع البروتينات. لذلك فالفيروسات قادرة على التناسخ داخل خلايا أثويائها فقط، و بالتالي فهي طفيليات داخل خلوية مجبرة لا تستطيع الاستمرار بالحياة خارج الخلية الحية.
من أين أتت الفيروسات؟
هناك نقاش بين العلماء حول ثلاث فرضيات للإجابة على هذا السؤال: 1 الفرضية التقدمية أو فرضية الهروب، 2 الفرضية التراجعية أو التناقص، و 3 فرضية الفيروسات
أولاً. الفرضية التقدمية:
يعتقد أنصار هذه الفرضية أن بعض العناصر الوراثية القادرة على الحركة بين مواقع مختلفة في الجينوم، اكتسبت القدرة على مغادرة الخلية و الحركة بين الخلايا.
فحقيقيات النوى مثلاً تحتوي على ما يسمى بالretrotransposons في جينومها والتي قد تشكل وفقاً لبعض الدراسات 42% من الجينوم البشري. هذه التراتسبوسونات العكسية هي عناصر جينية قادرة على الحركة و الانتقال بين أجزاء الجينوم، فهي تحمل الشفرة الجينية لإنزيم المنتسخة العكسية و إنزيم الانتغراز. بعد ترجمة هذا الجزء من الDNA الى RNA مرسال و تركيب هذين البروتينين، يقوم المنتسخة العكسية بالترجمة العكسية لجزيء الRNA إلى جزيء DNA و من ثم يقوم الانتغراز بإدخال هذا الDNA إلى مكان آخر في الجينوم، و بهذا ينتقل الترانسبوسون العكسي إلى مكان جديد.
تحاكي هذه العملية آلية انتساخ الفيروسات العكسية و التي تمتلك جزيءمن ال RNA وحيد السلسلة في جينومها، الذي، و على غرار الترانسبوسون العكسي، يحمل الشفرة الوراثية لإنزيمي المنتسخة العكسية و الإنتغراز الذين يقومان بإدخال جينات هذا الفيروس إلى جينوم الخلية ليبدأ انتساخ الفيروس و تكاثره. يعد فيروس الHIV المسبب لمرض الإيدز مثالاً عن الفيروسات العكسية. هذا التشابه بين العناصر الوراثية القادرة على التنقل و الفيروسات العكسية يرجح الفرضية التقدمية أو كما تسمى أيضاً بفرضية "الهروب" لأنها ترجح أن الفيروسات نشأت من اكتساب هذه العناصر المكونات اللازمة لتتمكن من الهروب و التنقل بين الخلايا.
الفرضية التراجعية:
يعرف علماء الأحياء الدقيقة بعض أنواع الجراثيم، كالكلاميديا و الريكتسيا، على أنها طفيليات داخل خلوية مجبرة. هذه البكتريا تطورت من أسلاف كانت قادرة على التكاثر في البيئة خارج الخلايا. ترجح الفرضية التراجعية بأن هذه الكائنات استمرت بالتطور نحو الحياة الطفيلية والاعتماد أكثر على الثويّ ففقدت كل العناصر اللازمة للحياة دون الثويّ. و هكذا فقد تكون الفيروسات نتجت عن هذا السلوك لتطور هذه الجراثيم .
هذه الفرضية قد تمثل تفسيراً منطقياً لمنشأ الفيروسات الكبيرة الحجم التي يتكون جينومها من ال DNA . هذه الفيروسات تكون عادة كبيرة الحجم، كفيروس الجدري مثلاً والذي يبلغ قطره حوالي 200 نانومتر أو فيروس Mimivirus و الذي يصل قطره إلى 750 نانومتر. إن الحجم الكبير و البنية المعقدة لهذه الفيروسات يرجح الفرضية التراجعية بأن الفيروسات نشأت عن تطور الجراثيم المتطفلة و المتعايشة مع الكائنات الأخرى، و فقدها العناصر اللازمة للانتساخ و التكاثر.
فرضية الفيروسات أولاً:
بينما تقوم الفرضيتان السابقتان على أن الكائنات الخلوية كانت موجودة قبل ظهور الفيروسات، يعتقد بعض العلماء أن الفيروسات كانت موجودة في الحقيقة قبل ظهور الخلايا، في ما يسمى بعالم الفيروسات، كأول كائنات قادرة على التكاثر، ومع الوقت أصبحت هذه الكائنات أكثر تنظيماً و أكثر تعقيداً، و طورت بعضها القدرة على تركيب الأغشية فنشأت الكائنات الخلوية.
يتفق علماء الأحياء اليوم أن أول جزيئات قادرة على نسخ نفسها كانت تتركب من ال RNA و ليس ال DNA. بعض أنواع الRNA كالريبوزيمات، تمتلك خصائص الإنزيمات، فهي قادرة على تسهيل و إجراء بعض التفاعلات. قد تكون بعض هذه الجزيئات البسيطة من الـRNA و التي كانت موجودة قبل ظهور الخلايا قد اكتسبت القدرة على التطفل على الخلايا عندما ظهرت.
بشكل مختصر، فإن الاجابة على سؤال ما هو منشأ الفيروسات ليس بالأمر السهل. قد تكون الفيروسات العكسية منحدرة من تطور بعض العناصر الجينية المتحركة، و قد تكون فيروسات الDNA الكبيرة حصيلة تطور الجراثيم الطفيلية. و قد تكون الفيروسات شكلت أصل الحياة كما نعرفها اليوم. و لربما تكون الفيروسات قد نشأت مرات عدة و بآليات مختلفة. بكل الأحوال لا زال أمامنا طريق طويل للإجابة على هذه الأسئلة التي تشكل أرضاً خصبة للبحوث العلمية.
المصادر
Koonin، E. V. & Martin، W. On the origin of genomes and cells within inorganic compartments. Trends in Genetics 21، 647–654 (2005).
هنا