الموسيقا بينَ الحضانة واللغة صِلةٌ ليست كأيِّ صِلة
الموسيقا >>>> الموسيقا والطب
ربََّما يُعَدُّ كتاب" Grooming, Gossip and the Evolution of Language" للكاتب والباحث في الأنثروبولوجيا التطورية من جامعة أوكسفورد " Oxford University" روبن دنبار" Robin Dunbar " أحدَ أكثرِ الكتب المثيرة للجدل، والتي ينقلُ من خلالها دنبار حقيقةَ الاجتماعية العالية التي كان يتمتَّعُ بها أسلافنا الأوائل سابقاً، بالإضافة إلى أهميَّة الاستمالة الصوتية والنميمة " القيل والقال " التي كانت محوراً أساسياً استندت عليه العديدُ من العلاقات الاجتماعية لاحقاً وذلك نظراً لكوننا نخصِّص قرابةَ ثلثي محادثاتنا للموضوعات الاجتماعية. إذ تدورُ معظمُ أحاديثنا الحالية عن علاقاتنا وتجاربنا الشخصية، وأمثالنا، وكرامتنا، وسلوكِ الآخرين وتصرفاتهم، ولكن يبدو في النِّهاية أنَّنا مهووسونَ بالنَّميمة والقيل والقال بِدءاً من الأقارب والأصدقاء وزملاء العمل وصولاً إلى الأشخاص رفيعي المستوى والمشاهير…..
لكن أذكر أنَّهُ في مرحلة ما اقترح أنَّ الموسيقا واللغة ساعدت البشر على الاندماج في مجموعاتٍ اجتماعية، وأعتقدُ أنَّ جميعَنا على دِرَايةٍ بالقوة الاستثنائية للموسيقا، ليس فقط في إثارة العاطفة فحسب بل بإيصال الأفكار وربطنا بمجموعة. كلُّ ما عليك أن تفعله هو أن تفكر في مشاعرك أثناء الغناء الجماعي: غناء نشيدك الوطني،
" Auld lang Syne " في ليلة رأس السنة والغناء في الكنيسة برفقة كورال الميلاد، أو حتى غناءك في المعسكرات ..
( الفيديو المجاور لأغنية Auld Lang Syne تؤديها فرقة The Tenors ) . هنا
لاحظ دنبار أنه على الرغم من أنَّ قدرتنا على الخطابة لها مكانها بالطبع، فإنَّ اللغة غير كافية إلى حدٍّ ما على المستوى العاطفي والاجتماعي، لكونها تحتاج مرافقاً آخرَ للتدخل ألا وهو الموسيقا، ومعاً استطاعتِ اللغة والموسيقا نقلَ الحقائق، وربما طوَّرَتَا معاً قدرتَنَا على التَّواصل والاستمراريَّة .
Image: http://www.parkrapidsenterprise.com/sites/default/files/styles/16x9_860/public/field/image/Kardemimmit.jpg?itok=5JmC_4zN
يوماً بعد يوم تأتي المزيد من الأدلة والأبحاث التي تثبِتُ هذه النَّظريَّة، ففي إحدى الدراسات التي حملت عنوان "الموسيقا ولغتنا الأم تفاعلات تجري داخل أدمغتنا " والتي قام بها مجموعة من الباحثين في جامعة هلسنكي الفنلندية عن المعالجة السمعيَّة للصَّوت لدى الأشخاص ذوي الخلفيَّاتٍ اللغوية والموسيقية المتنوعة والتي أظهرت أن متحدِّثي اللغة الفنلندية تمتعوا بميزةٍ عن نُظَرَائهم الألمان فيما يخصُّ المعالجة السمعية، في حين ارتبطت الخبرة الموسيقية للفنلنديين بتميُّزٍ واضحٍ للترددات المختلفة، وذلك نظراً لأنَّ اللغة الفنلندية تتضمَّن أصواتاً طويلة وقصيرة الترددات والتي تحدد معنى الكلمة والتي تدرَّبت أدمغة متحدثيها على تمييز المقاطع الصوتية والموسيقية. يُذكرُ أنَّ نظام السمع الدماغي يمكن أن يتشكَّل عن طريق الاختلاط بالبيئات السمعية المختلفة كتحدُّث اللغة الأصلية والتدريب الموسيقي المبكِّر، والذي قد يساعد لاحقاً متحدثي هذه اللغة في تحسين استجابتهم السلوكية وزيادة سرعتها .
لكن مهلاً، كان ذلك لمّا كان للموسيقا دورٌ مهمٌ في تعزيز فهمنا للغة وتفاعلنا معها!! هل بإمكانها أيضاً أن تمهد لطريقٍ جديد نحو تطوير أساليبنا اللغوية؟!
حسناً… في الواقع تفعل ولطالما فعلت، وتلخص لنا عدداً من الدراسات في العديد من الدول عن دور الموسيقا الأساسي في تعزيز الأساليب اللغوية للأطفال وتكوينها في مرحلةٍ ما قبل المدرسة (الحضانة).
Image: http://www.suzukinewton.org/program/images/students.jpg
فنلندا:
ها هي جامعة هلسنكي تعود مرة أخرى لتتألقَ ببحثٍ جديد فيما يخصُّ الموسيقا واللغويات، إذ دُرِسَ 66 طفلاً من رياض الأطفال، والذين تتراوح أعمارهم بين الـ 5 -6 سنوات واختُبِروا على مدى عامَين متواصِلَين أربع مرات في معالجة الأصوات " Phoneme processing " والمفردات الموسيقية بالإضافة إلى اختباراتٍ لمفاهيم التفكير الإدراكي والتحكم بالصوتيات لديهم، إذ قورِنَ بينَ أطفال يحضرون بشكل منتظم تدريباتٍ في الرقص والموسيقا والمسرح مع نظرائهم العاديين، وبيَّنتِ النتائج وجودَ مجموعة من الروابط المشتركة بين الكفاءة والتدريب الموسيقي في سِنٍّ مبكرة وبين تطور المهارات والأساليب اللغوية لدى البالغين والأطفال لاحقاً.
تمكَّن الموسيقيون من الأطفال من تمييز المقاطع الصوتية وكشف الكلام من الضوضاء، في حين ارتبطت تجربتهم الموسيقية بذاكرة لفظية ومهارات في القراءة والوعي الصوتي أفضل من غيرهم بكثير.
من جهة أخرى فقد ارتفعت نسبة الدرجات التي نالها الأطفال في اللغات الأجنبية وارتبطت ارتباطاً وثيقاً بوجود تدريبٍ موسيقيٍ مكثَّف في الصِّغَر، بالإضافة إلى زيادة في المهارات الصوتية والبصرية ومستوى الذكاء اللفظي بالمقارنة مع الأطفال الذين تدربوا على الرقص أو المسرح والدراما …
الجدير بالذكر أنَّ هذه الدراسة قد استخدَمَت لأول مرة الرقصَ نظراً لكونه النشاطَ الحركيَّ الأكثرَ ارتباطاً بالتدريب الموسيقي، ولكن لم يُعثَر على أي أدلةٍ تبيِّن وجودَ صلة بين دروس الرقص وزيادة المهارات اللغوية والذكاء اللفظي على الرغم من كونه يتضمن عناصرَ موسيقيةً مهمةً كمزامنة العمل مع الإيقاع والتعبير عن المحتوى العاطفي للموسيقا.
Image: https://s3.amazonaws.com/osmd-wp/wp-content/uploads/2016/06/21165826/iStock_000015788559Medium.jpg
2. ألمانيا :
في بحث سابق قام به عددٌ من الباحثون وبتشجيع من المجلس الألماني للتعليم الثقافي " the German council of cultural education " على مجموعة من 44 طفلاً تتراوحُ أعمارهم بينَ الـ 5-7 سنوات و20 شاباً تتراوح أعمارهم بين ال20-30 سنة.
خَلُصَ البحث إلى وجود روابطَ جوهريةٍ بينَ الخبرة الموسيقية والأساليب اللغوية ومهارات القراءة والكتابة، إذِ استُخدمت العديد من أساليب التحليل وتنظيم الكفاءات مثل طول المقاطع والكلمات لفظياً وإيقاعياً وافتُرِضَ أن اكتسابَ كل من المهارات اللغوية والموسيقية يكون وفق العمليات المتسلسلة تراتبياً، إذ تشيرُ أدلة الدراسات النفسية والعصبية في مجال اللغات المحكية إلى أنَّ هذا النوع من اللغة يُعالجُ صوتياً وموسيقياً في باحاتٍ دماغيةٍ كباحة بروكا"Broca" والتي تُعَدُّ مسؤولةً عن عمليات الكلام والمعالجة اللغوية.
توفر هذه الدراسة أدلةً إضافيةً على العلاقة المتبادلة بين مهارات اللغة والخبرة الموسيقية المبكرة ودورها في نشأة المهارات الاجتماعية وتطورها وأساليب التعبير والتواصل لدى الأطفال في ذلك العمر.
Image: https://foreignpolicymag.files.wordpress.com/2016/08/peter-parks_piano_gettyimages-52780865-copy.jpg?w=1550&h=1024&crop=0,0,14,0
3. الصين :
لخصت دراسة جديدة من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) - والتي ساهم بها الباحث روبرت ديسيمون
" Robert Desimone "، مدير معهد ماك جوفرن لأبحاث الدماغ
" McGovern Institute for Brain Research" في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا،
وبالتعاون مع يون نان " Yun Nan" المسؤولة عن مجموعة الإدراك الموسيقي في مختبر مفتاح الدولة لعلم الأعصاب الإدراكي والتعلم، و معهد ماكوفيرن لأبحاث الدماغ في جامعة بكين الصينية - لخصت هذه الدراسة اهتمام المدرسين الصينيين في تعلم أساسيات الموسيقا والصوتيات ولاحظوا مسبقاً فائدتها في تعلم اللغة.
في هذا البحث قُسِّمَ 74 طفلاً في مرحلة رياض الأطفال عشوائياً إلى 3 مجموعات لمدة 6 أشهر، ودُرِّبَت مجموعة واحدة فقط على البيانو لمدة 45 دقيقة 3 مرات أسبوعياً، في حين كان التدريب على القراءة من نصيب المجموعة الثانية، أمَّا الثالثة فقد أمست بلا تدخل، وبعدَ 6 أشهر بيَّنت النتائج أنَّ المجموعة التي تدرَّبت على البيانو أظهرت مزايا فريدة في قدرة الأطفال على تحديد التغييرات في كل لهجة والطابع الصوتي والموسيقي لها، وتطوراً في اللغة والمفردات ومهارات النطق أيضاً، ومن المثير للاهتمام أنَّ كلاً من المجموعات الثلاث أظهرت تحسناً متساوياً في التدابير المعرفية العامة التي شملت اختبارات الذكاء والذاكرة العاملة وفترة الانتباه.
ولكن يبقى السؤال هل بإمكاننا توظيف تلك الدراسات في عملية المعالجة بالموسيقا؟!
في الحقيقة تُدعَمُ العديد من المشاريع حول العالم المتعلقة بالعلاج بالموسيقا، وخاصةً فيما يتعلق بتعزيز المهارات اللغوية للطلاب الذين يعانون من صعوبات في التعلم، إذ يمكن للعلاج بالموسيقا أن يساعدهم على استرجاع الكلمات المحكية بشكل عام. للمزيد انظر الفيديو المجاور هنا
وربما تُعَدُّ هذه الدراسات نقطةَ بداية مثيرة للاهتمام للبحث المستقبلي في مجال اكتساب المهارات اللغوية والموسيقية وستكون حجر الأساس لدراساتٍ لاحقةٍ والتي تفسر نظريات الموسيقا وآليَّتها في إغناء علم اللغويات وأساليبنا للتواصل والتعلم.
الحاشية :
• الانثروبولوجيا anthropology: علم دراسة الجنس البشري وثقافته ومجتمعه وتطوره الطبيعي
هنا
• المعالجة الصوتية Phoneme processing : هي استخدام أصوات الأفراد لمعالجة اللغة المنطوقة والمكتوبة.
هنا
المصادر:
هنا
هنا
هنا
هنا
هنا
هنا
هنا
هنا
هنا
هنا