أسطورة التنين السومرية
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> الفلسفة
مقدمة :
لقد أقامت الآلهة الفتية نظام الكون، و دفعت عجلة الحضارة، بعد أن قضت على قوى العماء البدئية. فأحلت النظام والترتيب محل الفوضى القديمة، وبدأ العالم معها عهداً جديداً، واضح المعنى والهدف والغاية. إلا أن قوى العماء لم تعلن بعد استسلامها الكامل. وها هي قوى جديدة تنتسب لها، تندفع بين الوقت والآخر، للهدم والخراب والقضاء على منجزات الإنسانية، في محاولة يائسة لإرجاع العالم إلى حالته السكونية الأولى. وهذه القوى الجديدة، ترتدي رداء القوى القديمة، فتعيد إلى الذاكرة صور وحوشها الرهيبة. فهي وحوش جبارة، و كائنات ضخمة لا تنتمي للعالم البشري أو العالم الحيواني المعروف. نراها على شكل حيّات هائلة ذات رؤوس متعددة، أو تنانين بحرية مريعة، أو طيور عملاقة. و تكاد هذه القوى أن تثأر للعالم القديم الذي تنتمي إليه لولا تصدي أحد الأبطال لقتالها وإرغامها على التراجع، و الحفاظ من ثم على أمن العالم ونظامه واستقراره .
وأسطورة التنين شائعة في كل مناطق الشرق القديم، كما أنها شائعة في معظم الأساطير العالمية. الأمر الذي يجعل ربطها برمز معين على قدر كبير من الصعوبة، دون الوقوع في ورطة التعميم وأحادية النظرة. ولكن التفسير النفساني يبدو مغرياً وجذاباً، خصوصا إذا علمنا أن التفسير التاريخي لا تثبته الوقائع المستمدة من الأنثروبولوجيا والتاريخ الطبيعي. ذلك أن ظهور الإنسان قد تأخر فترة زمنية كبيرة عن زمن انقراض الديناصورات الضخمة، التي سيطرت على الأرض فترة لا بأس بها من الزمن. فشاء حسن حظه ألا يجتمع بها أو يراها، إلا هياكل عظمية في متاحف العصر الحديث .
وعلى هذا إذا اتبعنا المنطق الفرويدي، نستطيع النظر الى هذه التنانين باعتبارها تمثيلاً لقوى اللاشعور الفردي، الذي يضطرب على الدوام بكل ما يناقض الوضع الحضاري للإنسان، تلك القوى التي تحاول دائما اقتحام عالم الشعور . وهنا نستطيع اعتبار البطل الذي يقهر التنين بمثابة الفرد السوي داخل المجتمع الذي يستطيع كبح جماح لاشعوره والسيطرة عليه ليحيا متوازناً مع قيم الجماعة، أما اذا اتبعنا المنطق اليونغي، فإننا ننظر الى عملية الصراع مع التنين باعتبارها عملية بناء للشخصية الفردية Individuation يتخلص الفرد من خلالها من تأثيرات الطفولة واعتماده على شخص الأم .
على أن حكاية البطل و التنين، لا تقف عند حدود الأسطورة القديمة. فنحن نجدها في جميع حكايا الشعوب الفولكلورية، وقصص الأطفال، كما أنها محببة لنفوس الناس في العصر الحديث أيضا، حيث نرى الموضوع يتكرر في الكثير من أفلام السينما التي تقص عن وحش مائي يخرج من أعماق المحيطات، أو قرد عملاق يأتي المدينة من جوف الغابات دون أن تستطيع أحدث الأسلحة القضاء عليه إلا بصعوبة بالغة .
1. التنين في الأساطير السومرية :
بعد أن تمّ تنظيم الكون السومري، وبعد فترة ليست بالطويلة من فصل السماء عن الأرض، يندفع من باطن الأرض تنين العالم الأسفل "كور" الإله المطلق لعالم الموت والظلام، في محاولة مدّ نفوذه على بقية العالم و إرجاع الحياة إلى جماد، والحركة إلى سكون، والنور إلى ظلمات، ولكن الآلهة الشابة التي وطدت حديثا، تتصدى له وتعيده إلى عالمه. و قد تصدى لكور على التوالي، و في مواقع مختلفة، كل من "إنانا" إلهة الحياة والحب والخصب وإنكي إله الماء واهب الحياة، و"ننورتا" ابن إنليل إله الهواء والحركة.
والنصوص السومرية التي وردت عن صراع الآلهة والحركة، ضد تنين العالم الأسفل، و صلتنا في حالة سيئة من التشوه والنقص، الأمر الذي يمنع من معرفة مصير كور النهائي. إلا أن بقية الأساطير السومرية تتحدث عن كور باعتباره مكاناً، لا باعتباره تنينا أو إلها، مما يدل على أن كور التنين قد قتل أثناء هجماته، و ترك اسمه يطلق على العالم الأسفل الذي كان يسكنه.
كور يختطف أريشكيجال:
يتحدث هذا النص عن قيام الإله كور باختطاف الإلهة أريشكيجال لتصبح زوجة له في العالم الاسفل، وعن تصدي الإله إنكي له، والمعركة التي دارت بينهما:
"بعد أن أبعدت السماء عن الأرض
وفصلت الأرض عن السماء
وتمّ خلق الإنسان
وأخذ "آن" السماء
وانفرد انليل بالأرض
وأخذ الإله "كور" الإلهة اريشكيجال غنيمة
ولكن "إنكي" أبحر، لكنه أبحر
أبحر الإله إنكي إلى كور
قصد إلى كور مبحرا
رماه بالحجارة الصغيرة
كما رماه بالحجارة الكبيرة
كان يرمي الحجارة الصغيرة باليد
زالحجارة الكبيرة بـ (.. ..) (مقذاف) القصب"
وبما أن هذا النص لم يكن مكرسا لرواية كور واريشكيجال، فإنه لم يعن بالكامل بالقصة التي افترض أنها معروفة في ذلك الحين، ومفصلة في نصوص أخرى. هذا النص ورد كمقدمة لنص آخر هو نص جلجامش وأنكيدو والعالم الأسفل، حيث جرت العادة في معظم النصوص السومرية أن يبدأ الكاتب بفقرة تتحدث عن الأصول والبدايات والأحداث الجسام التي وقعت في تلك الأزمان الأولى، على أننا نعثر على أريشكيجال في النصوص اللاحقة، وخصوصا البابلية منها، وهي ربة للعالم الأسفل من دون كور. فهل يدل ذلك على فشل إنكي في إنقاذها، أم أن إنقاذها قد تمّ ثم هبطت إلى العالم الأسفل وقت لاحق، و من خلال أحداث مختلفة؟ هذا ما لا تجيب عليه النصوص التي بين أيدينا.
كـور وإنانا :
بطل التنين هنا هو الإلهة إنانا، إلهة الخصب والحب، وإلهة الحرب والدمار أيضا، تتصدى للإله كور فتتغلب عليه، فتحمل لقب "قاهرة كور" الذي نعتتها به كثير من الروايات السومرية. والنص غامض وبه كثير من النقص ولكننا نستطيع اقتباس بعض فقراته:
"سأرميه بالحربة الطويلة
وسأوجه ضده كل أسلحتي
وبالغابات المحيطة به سأضرم النار
وفي [.. ..] سوف أغرس فأسي البرونزي
وكجبل "آراتا" سأنزع عنه هيبته
وكما يفعل جيبيل إله النار المقدسة سأجفف ماءه
وكمدينة لعنها آن لن تعود سيرته الأولى
وكمدينة نبذها انليل لن ينهض ثانية"
ورغم أن "آن" يحذرها من مغبة المخاطرة، إلا أنها في حماسة شديدة تشهر القتال، و توجه أسلحتها في صراع ناجح ضد كور لتطأه أخيرا بقدميها.
ننورتا يصارع آساج :
ننورتا ابن انليل إله الهواء والعاصفة، وهو إله الرياح الجنوبية العاصفة، وأيضا إله القنوات والسدود والري. وهو في هذا النص يعتزم التصدي لآساج عفريت العالم الأسفل وإله العلل والأمراض والساعد الأيمن لكور. وقبل أن يتوجه إلى القتال يقوم سلاحه شارور (و لا يوضح لنا النص نوع هذا السلاح) بتشجيعه وحثه على الهجوم. وعندما تبدأ المعمعة، يبدي آساج من الشدة والمراس، ما يجعل ننورتا يفر وكأنه طائر. ولكن سلاحه العنيد يعود لحثه على مواصلة القتال. و في هذه المرة يستطيع ننورتا قهر آساج والتغلب عليه. إلا أن سلسلة من الكوارث تلي ذلك. فالعالم السفلي يتزعزع لهذه الحادثة، و تثور ثائرة كور، فيبتلع أولا المياه العذبة من الينابيع والآبار والأنهار :
"سادت المجاعة واستحال الانتاج
غاضت الأنهار الصغيرة حتى لا تستطيع فيها غسل اليدين
وحرمت حقول السقاية، و لم تحفر قنوات الري
واختفت الزراعة عن وجه الأرض، تاركة مكانها للطحالب"
بعد هذه المرحلة التخريبية الأولى، يدفع كور بمياه الأعماق بقوة إلى سطح الأرض لتكتسح أمامها كل شيء، وهنا يتصدى ننورتا مرة أخرى لقوى العالم الأسفل، فيعمل على بناء سد عظيم من الحجارة في وجه المياه وينجح في صد هجومها المدمر وينقذ سومر.
"أما ما فاض فقد جمعه
أما ما خرج من كور
فقد جمعه و دفعه إلى نهر دجلة
من تلك المياه التي غمرت الحقول
فانظر الآن ترى كل شيء على الأرض
يبتهج بمآثر ننورتا، ملك البلاد
الحقول تعطي حبوبا وافرة
والبساتين والكروم تحمل الثمار
والرب مسح الحزن عن البلاد
وأبهج نفوس الآلهة"
وقد سمعت ننماخ بفعال ابنها ننورتا، فقامت لرؤيته. ناجته من بعيد أن يأذن لرؤيتها، و عندما تحضر إليه يهديها جبل الحجارة الهائل الذي ردمه في وجه كور، فتحمل اسم سيدة الجبل، أي ننماج، و هو اسم من أسماء الأم-الأرض.
بعد هذه الفقرات التي تعرض فيها الأستاذ فراس السواح إلى الحديث مرة أخرى عن أسطورة التكوين و خلق الإنسان من طين السومريتين أنتقل إلى أسطورة "كور" التنين" السومري. و أقول في هذا الموضوع :
- أن أسطورة التنين السومري تشير من خلال سياق النص إلى أن عالم السماء يختلف عن عالم الأرض. كما تشير إلى وجود علاقة بينهما، إلا أن عالم الأرض هو المعني بموضوع هذا النص الأسطوري، لأن الأرض هي التي تحمل الحياة والأحياء، وهي التي تمثل الوجود بالنسبة لكل المخلوقات التي تعيش على سطحها، و في انعدامها يحصل العدم. أما عالم السماء فقد كان يسوده الغموض عندما دونت هذه الأسطورة حسبما يبدو لي.
أما اختطاف "كور" لـ "اريشكيجال" و الاحتفاظ بها كغنيمة، لتصبح له زوجة في العالم الأسفل، فيبدو هذا الاختطاف المفترض قد حدث في عالم الأرض لا في عالم السماء لأن "انكي" من آلهة الأرض.
وعلى غرار ذكر هذه الآلهة الثلاثة (كور، اريشكيجال وإنكي) سأبحث عن الرموز التي تحملها هذه الأسماء الثلاثة. وهذا من خلال مهامها والمعتقدات التي تحوم حولها، والأسطورة التي حملت بها، والخيال الخصب الذي زرع نطفة خلقها في رحم عالم الماورائيات، فإذا كان إله العالم الأسفل يستقبل كل من فقد الحياة وعاد إلى العدم من جديد، فهو يرمز إلى الفناء، الذي يتسع فضاؤه لكل المخلوقات من أحياء ونباتات وغيرها، و حتى الكائنات الماورائية، التي تعيش في مخيلة الإنسان القديم.
أما دور الموت الموجود ضمنيا في سياق نص الأسطورة، فهو يمثل الانتقال الحتمي للأحياء من حياة واقعية إلى عالم مفترض أشبه بالعدم، يسمى العالم الأسفل. و حتى هذا العالم ابتكر له الخيال الإنساني نظاما قائما بذاته.
ولما كان "آساج" هو إله العلل والأمراض، وهذه الأخيرة هي الأسباب الرئيسية لفقدان الحياة فلقب بالعفريت الجبار، الذي يسعى دائما لتحطيم قوى كل الأحياء على وجه الأرض، و يرمي بضحاياه إلى هوة العالم الأسفل، وكلمة "الساعد الأيمن" لكور ترمز إلى هذه المهمة. وعلى هذا الأساس فآساج يمهد للموت، والموت يحول ضحاياه إلى الفناء. وهكذا يكون إله الفناء هو نفسه إله العالم الأسفل الغامض.
ولما كان الماء هو الذي أوجد الحياة والأحياء، فهو أجدر بإعادتها مرة ثانية أو أكثر. و إنكي إله المياه العذبة الصالحة لإنتاج الحياة و واهبها، أي العامل الأساسي لنشأتها ونموها واستمرارها إلى أن تداهمها الأسباب القاضية عليها. من أجل هذا التجأ مدون الأسطورة إلى الإله إنكي لتجديد الحياة العامة للمخلوقات المهددة بالفناء والانقراض، و قد يكون المدون فعل هذا للتقليل من تأثير شبح الموت على الأحياء، وخاصة الإنسان، وفتح باب الأمل لحياة جديدة، وهذا الأمل من شأنه أن يخفف من رعب الإنسان، ويتركه يعيش في هدوء كبقية الحيوانات الأخرى، حتى يصطدم بواقع ما كان يخشاه.
ويبدو لي بوضوح أن "اريشكيجال" التي اختطفها "كور" إلى العالم الأسفل لتصبح زوجة له، هي التي ترمز إلى الحياة الواقعية في هذه الدنيا. وما اختطافها إلا محاولة من مدون الأسطورة لإثبات انتقال الحياة من عالم الواقع إلى عالم الخيال، أو العالم الأسفل المفترض. أما تحرير اريشكيجال من قبضة الإله كور (الفناء) فقد تكون ترمز إلى فكرة الحياة الجديدة في ما يسمى بالعالم الأسفل الأسطوري. و إذا كانت اريشكيجال (الحياة الواقعية) ستصبح إلهة العالم الأسفل، و يختفي "كور" نهائيا كما نجده في الأساطير البابلية، فهذا يعني إثبات ما يعتقده القائلون، بأن الحياة في العالم الأسفل أساسها حياتنا الواقعية هذه، حسب اعتقادهم.
المصادر:
مغامرة العقل الأولى، دراسة في أسطورة سورية وبلاد الرافدين، فراس السواح، طبعة 1987.
رحلة في عالم الأساطير السومرية، أ. محمد الطاهر سحري